دمشق .. التي تباع قطعة قطعة في عمان .. بقلم نبيل نايلي
ما يتعرّض للنّهب ليس تاريخ سورية، فحسب، بل تاريخ الإنسانية جمعاء!!! قبل بداية الصراع المسلّح كان ناهبو الآثار يقومون بحفرياتهم ليلا، أما اليوم فهم يقترفون جرمهم في وضح النهار! ” الدكتور مأمون عبد الكريم، مدير الآثار والمتاحف في سورية.
تأجّجت شرارات الانتفاضات الشعبية في سورية كما في باقي الأقطار العربية تحت عناوين واضحة ومن أجل أهداف سامية كالحرية والكرامة والسيادة الوطنية، واسترداد الوطن من براثن النظم الحاكمة. استرداده أوّلا، والحفاظ عليه وصون ذاكرته وتاريخه، ثانيا. ذلك ما ترجمه حرص بعض الشباب العربي المنتفض، في مصر مثلا، ليشكّل الدروع البشرية تلقائيا، واللّجان الشعبية وحركات “ثوار الآثار”، ليحمي بصدوره العارية المؤسسات والمتاحف والمكتبات الوطنية، يوم هجرتها قوات “الأمن الوطني” لتتركها فريسة لمافيا تجار الآثار والمخطوطات العالمية ولعصابات مأجورة مهمّتها التخريب والعبث بتاريخ الأمم. هؤلاء الذين تركوا، عن طيب خاطر، شرف الوقوف بساحات التحرير حيث الأضواء وتغطيات “متعهّدي الثورات”، ليكتفوا بشرف الحفاظ على ذاكرة الوطن، دون فخار أو مزايدة أو “استثمارا” في غد انتخابي، وحدهم من لهم الحق في الانتساب للمسار الإنتفاضي و الانتماء للوطن. لا منسّق ما يسمّى “بالجيش السوري الحر”، السيد أبو محمد حمد، يحاول أن يبرّر بيع آثار سورية بقوله: “لقد تركونا نواجه جيشا بأكمله ونحن العزّل دون مساعدة من أحد..من حقّنا أن نوظّف كل الموارد التي نجدها”! ولا هذا المنشقّ عن مؤسسة عسكرية كالجيش العربي السوري، المكنّى بأبي ماجد، الذي يصرّح للواشنطن بوست، محاولا تبرير النهب، قائلا: “قد يحكم علينا الناس وينعتوننا باللّصوص، ولكن في بعض الحالات عليك أن تضحّي بالماضي لتأمين المستقبل”!
أي “ثائر” هذا الذي ينهب ويسرق الكنوز الأثرية والتراث الإنساني السوري، ذاكرة البلاد الوطنية، ويبيعها لـ”شراء الأسلحة ومواصلة القتال ضد الأسد”؟ صحيفة “واشنطن بوست” تقول أن سورية “أضحت مرتعا للصوص والناهبين وأنّ عمليات الشحنات المهرّبة إلى داخل سورية من الدول المجاورة، أصبحت تشمل إضافة للذخيرة والأدوية، أجهزة الكشف عن الذهب والمواد الأثرية والمعاول”.!!! أحد هؤلاء “الثوار” جدا جدا قال : “في أيام نحن مقاتلون و في أيام أخرى نحن منقّبون عن الآثار”! ليفاخر بعدها “استطعت الكشف عن لوحة تعود للعصر البرونزي عليها نقوش باللغة السومرية، في بلدة ايبلا”!
تقرير الواشنطن بوست يدمي القلب وهو يتحدّث عن “انضمام مقاتلين إلى شبكات التجارة السرّية التي تتولىّ نهب وسرقة وترويج تراث سورية في الأسواق السوداء. هل يشفع لهؤلاء “الثواّر” وهل يبرّر قلّة حيلتهم وشحّ مواردهم ليفرّطوا في تاريخ بلدهم؟ متى سيفرّق “ثوار” هذا الربيع العصي على كل قوانين الطبيعة، فضلا عن قوانين الفعل الثوري، أن النّظم التي يثورون عليها ويرفعون السلاح من أجل إسقاطها، بل ويستجدون المستعمرين وحلف شمال الأطلسي نصرتهم، ليست مطلقا ولن تكون هي الأوطان التي يحرقونها! كيف يخلطون بين الحاكم والوطن، حدّ التشريع بتصفية خيرة علمائنا وخبرائنا وطيارينا، واستباحة دور العلم والمنشآت العامة والمخابر ومصانع الأدوية والبنى التحتية؟ كيف تسوّل لهؤلاء حرق مستوصفات ودور عبادة وأضرحة ومقامات، وهم يوشّحون راياتهم بكلمات التوحيد وبإسم الرسول المصطفى، عليه الصلاة والسلام وعلى آله الطاهرين الطيبين، دون أن يرفّ لهم جفن؟ كل ذلك العبث الإجرامي، ولا نقول الثوري، فلا علاقة للثورات الفعلية بهكذا تخريب، لا يسقط نظما بل يسقط أوطانا.. ليكتشف العابثون بعدها أنهم كانوا حطب ووقود حروب بالوكالة! وأنّ الوطن الذي قدّموا الغالي والنفيس لإسترجاعه من سطوة الطغاة قد بات لقمة سائغة بين براثن الغزاة!
استئصال الذاكرة التاريخية مرحلة ضرورية لضرب الخصوصية الثقافية والحضارية، ليسهل بعدها إحلال ذاكرة دخيلة ومن ثمة هندسة هوية مشوّهة لمجتمع منبت واستنساخ منظومة قيمية مصطنعة.
تكتب الدكتورة حياة الحويك عطية ناعية تراث العراق لتقول في مرارة “في بغداد كانت حرب الذاكرة هي الأشرس، لأن الذاكرة هناك هي الأشرس، ولا تتسع مجلّدات لما أصابها من دمار. امتد الاقتلاع من أور التي لم ينفعها إدراجها على قائمة التراث الانساني إلى كل حجر وطين ومخطوطة وإلى كل مبنى يحمل طبقات من الحياة الشعبية التي تعني قصة الإنسانية منذ صرختها الأولى.” ثم بلغنا بعدها نبأ الجرافات التي أعدمت شارع أبو نؤاس… ليبكه كل عربي من الجيل الذي كانت له علاقة بالذاكرة وبالحياة وبالثقافة.”!!!
لم تندمل بعد جراحات المتحف الوطني العراقي ومكتبة مخطوطاته التي فقدت كنوزا لا تُقدّر بثمن، أُتلفت أو التهمتها النيران على مرأى ومسمع من القوات الأمريكية الغازية، حتى بلغنا النبأ الجلل: حرق دار العلوم المصرية وتحوّل ما يقارب من 200 ألف مخطوطة نادرة ونفيسة إلى كومة من الرماد! إضرام النار بدار العلوم، الكارثة الوطنية بكل المقاييس. كلاّ، لم يبالغ الخبراء والمختصّون حين اعتبروا أنّ ما حلّ بدار العلوم كارثة وخسارة وطنية لا تعوّض. إذ رغم الجهود الجبارة لإنقاذ ما أمكن إنقاذه من تراث مصر، تم فقط التمكّن من نقل 25 ألف كتاب ووثيقة إلى دار الكتب والوثائق القومية، بينما أتلفت ألسنة اللهب حوالي 192 ألف كتاب ومخطوط أثري، من ضمنها 10 أجزاء من أصل 22 جزءا من النسخة الأصلية لكتاب “وصف مصر”. المخطوط الشهير الذي ألّفه العلماء الفرنسيون إبان الحملة الفرنسية على مصر. بالإضافة للخرائط الأصلية لترسيم حدود مصر والتي تم الاستناد عليها خلال التحكيم الدولي لاستعادة “طابا”، مع مجموعة من الخرائط الأخرى لحدود مصر منذ العام 1800. بحرقة وألم شديدين، ينعى كاتب من مصر، اسمه محمد الغيطي، المجمع العلمي، قائلا: “المجمع ليس مجرّد مبنى يضم كنوز العلم وتاريخ البحث العلمي المصري و عيون وأمهات الكتب العلمية، لـ«40» ألف كتاب لا نظير لها في العالم تم حرقها جميعاً. المجمع العلمي لمن لا يعرف كان أول بذرة وضعها محمد علي لبناء مصر الحديثة، كان أول مصباح نور في ظلام المنطقة العربية والإسلامية بل وفى الشرق الأوسط!” ذلك ما جعل الدكتور أحمد زويل، العالم والحائز على جائزة نوبل للعلوم، يناشد دامع العينين، في رسالته المطولة التي وجهها إلى “شعب مصر العظيم” و “شباب مصر العظيم” و”جيش مصر العظيم”، إلى تحمّل المسؤولية من أجل مستقبل مصر.
ليبيا هي الأخرى لم تسلم من العبث المنظّم لتتعرّض كنوزها الأثرية وتراثها التاريخي للنّهب. في غمرة الفوضى والفراغ الأمني، تمّت سرقة نحو 8 آلاف قطعة من العملات المعدنية القديمة والمجوهرات والتماثيل النادرة التي تم الإستيلاء عليها من قبو أحد البنوك في شرق ليبيا. عالم الآثار البريطاني المتخصص في الآثار الليبية، بول بينيت، لم يتردّد في التعليق قائلا: “هذه أكبر سرقة نمت إلى علمي!” ما سلم يومها من عصابات اغتيال الذاكرة، لم تسعفه عمليات التجريف التي طالت مناطق أثرية بأكملها.
يأتي اليوم الدور على سورية وذاكرتها. بعد أن أُضرمت النار في أسواق حلب القديمة المسقوفة، أقدم أسواق في المنطقة، وأطول أسواق مسقوفة في العالم بعد سوق إسطنبول، تمّ تحويل أماكن تاريخية إلى ساحات حرب، ودُمّرت القلاع كقلعة حلب وقلعة الحصن. النّهب المنظّم استهدف المتاحف وتحفها النادرة. فكان أن تعرّض 12 متحفا من بين 36 متحفا، لعمليات سطو، ولا يزال الخطر متفاقما كلّما ازداد الوضع الأمني تردّيا. لا يبالغ الدكتور مأمون عبد الكريم، مدير الآثار والمتاحف في سورية، حين يصرّح: “ما يتعرّض للنّهب ليس تاريخ سورية، فحسب، بل تاريخ الإنسانية جمعاء!!! قبل بداية الصراع المسلّح كان ناهبو الآثار يقومون بحفرياتهم ليلا، أما اليوم فهم يقترفون جرمهم في وضح النهار! ”
هل يكون “الأمر في عمقه حقد على الحضارة، حضارة هذه المنطقة الألفية، سومرية كانت أم بابلية، أكادية أم أشورية، كنعانية أم فرعونية، أموية أم عباسية أم فاطمية أم أيوبية؟ حقد من لا يملك على من يسبح في الغنى. وعندما يكون الثراء هو ثراء حضاري تاريخي ثقافي، والفقر كذلك، فلا الأموال ولا القوة تستطيعان تعويضه. لا شيء يعوّض إلا التدمير. أما بالنسبة للصّهاينة فقد لخّص بيغن كل المعادلة بيننا وبين جماعته حين قال عام 1993: “حتى لو حصل سلم بيننا وبين العرب، فان الحرب بين الحضارة العربية والحضارة اليهودية ستظلّ قائمة إلى أن تسيطر إحداهما على الأخرى!”
من يستهدف مكتباتنا ومتاحفنا ويغتال تاريخنا ويتصيّد كل الفرص السانحة للتسلّل والعبث بإرثنا الحضاري، لا يفعل ذلك اعتباطيا أو عبثا وإنما يتصرّف وفق منهجية وإستراتيجية واضحة المعالم، متعدّدة الأدوات والأساليب، تروم استئصال واغتصاب الذاكرة القومية، ليسهُل عليه بعدها العبث بجينات المكوّن الثقافي والحضاري لأجيال هذه الأمة. وعليه فإن استهداف دار العلوم المصرية، كما كان استهداف مكتبة العراق الوطنية واستباحة متاحفه، تماما كنهب التراث السوري اليوم، ليس استهدافا لذاكرة هذه الأقطار فحسب، بل استهدافا للذاكرة القومية وعدوانا سافرا على تاريخ الأمة وطمسا لرموز حضارتنا وتجفيفا لكل ينابيع المعرفة والنهوض.
إن من يفعل ذلك يعلم علم اليقين أنّ جوهر المعركة التي تدور رحاها الآن، بعد أن تمّ حرف المسار الإنتفاضي واختطافه ليصبح رديفا لحروب الوكالة، تصلي ذاكرتنا بلهيبها، هو قطع جذورنا وتحويلنا إلى مخلوقات نمطية بلهاء، لا تعرف غير الإستهلاك وأن نكون ذلك الكائن المسخ والوليد الشرعي لطاحونة الإستنساخ الثقافي.
يا سادة، التراث التاريخي السوري، الذي تبلغ مأساته حدّ قول مهرّب وتاجر الآثار، محمد خليل: “دمشق تباع هنا بعمان، قطعة قطعة!”، كما التراث التاريخي العراقي كما تراث ليبيا، كما مكتبة مصر وكل ساحات العرب المستباحة يتعرّض للنهب والحرق والإتلاف… ألاّ نذود عنه ونحميه نكون نفرّط في آخر الحصون: ذاكرتنا الوطنية…لا خير في حراك ثوري يتغاضى عمّا يتهدّد تراثنا، فما بالك إذا كان يقايض ماضينا بمستقبل لا يملك حتى ملامحه!!!
الأمم لا تموت إلاّ إذا قررت هي بنفسها الإنتحار!
نبيل نايلي | بانوراما الشرق الاوسط