قيامة المسيح السوري .. بقلم محمد سعيد حمادة
لم تكن القمّة الروحية في دمشق منذ أيام حدثًا عابرًا، ولن تمرّ خبرًا كباقي الأخبار في أن ثلاثة من البطاركة المسيحيين التقوا في البلد الذي خرج منه نور المسيحية إلى العالم، حيث كانت انطلاقة بولس الرسول التي غيّرت مجرى التاريخ البشري وطبعت الوجود الإنساني بقيم جديدة ارتفعت به إلى شراكة نورانية في إبداع مُثُل المسيح في العدالة والمساواة والإخاء، أو كما قالها “الله محبة”. ولم يكن الفرح الغامر الذي بدا على ملامح البطريرك غريغوريوس الثالث لحّام بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك في حفل تنصيب البطريرك اليازجي، وانساب غبطةً في قلوبنا، إلا فرحًا بالحدث التاريخي الذي شهدته دمشق، وهو تصحيح مفاهيم وإعادة تصويب أخطاء لكل جاهل أو متجاهل لحقيقة أن سوريا هي المرجعية وهي الأصل وكنيستها المسيحية، وإن تعدّدت التسميات، هي الكنيسة التي تعرف كيف تستعيد زمام المبادرة من كل من يحاول تهميشها. بل وذكّرت العالم أجمع أن اسم الكنيسة الأم كان ولمدة أربعة قرون “الكنيسة السريانية” (السورية) لأن رسالة يسوع كانت تحمل اسم الدين السوري لقرون.
فبعد عقود طويلة مزعجة، لا يطلّ البطريرك الماروني من دمشق فحسب، بل ليؤكّد ومن كنيسة الصليب المقدّس للروم الأرثوذوكس أنه “بطريرك كنيسة أنطاكيا السريانية المارونية”، وفي قوله هذا نسف لكل الهرطقات الانعزالية التي حاولت عبر عقود إلغاء كل ما يربط لبنان بمحيطه القومي الأنطاكي كنسياً. فأن تكون الكنيسة المارونية كنيسة سريانية، وهذه حقيقتها، فهذا يعني أن البطريرك الراعي أكّد على أن الموارنة هم سريان سوريون وأدبهم الديني والاجتماعي هو بعض الأدب السوري السرياني، وفي هذا تأصيل لدور الكنيسة المارونية في حفظ ونشر الثقافة السورية التي تعدّ المسيحية أحد أكبر ركائزها وأهم مرجعيات وعيها الذي وسم الثقافة البشرية ككل. جاء البطريرك الماروني إلى عاصمة سوريا وهي تتصدّى لأشرس حرب عليها تطال وجودها وإنسانها وتاريخها ليؤكّد أن سوريا مهد المسيحية ومركز إشعاعها وأنها مرجعية الغرب الذي يدّعي المسيحية ويتآمر عليها في الوقت نفسه، وأن الكنيسة هي لكل البشر من دون استثناء وليست للمسيحيين وحدهم، وهو بطريرك لكل السوريين المشرقيين “هذه رسالتنا نعلنها اليوم من هنا من كنيسة الصليب لنؤكد أننا كلنا أخوة وأخوات وكلنا مدعوون لكي نعلن كرامة الإنسان، كل إنسان، ونحافظ على الحياة البشرية فهي قيمة لا ثمن لها”. لقد كان حضور البطريرك الماروني وكلمته تأكيدًا على منعطف مار مارون الذي اتجه بالكنيسة السريانية (السورية) إلى “طريق دمشق” بعد أن فقدت صوابها بتأثيرات العقائد الغربية الغريبة عنها، إذ كانت حركة مار مارون في الأصل تأصيلاً سوريًّا لكنيسته التي تغرّبت.
كذلك كان البطريرك يوحنّا العاشر اليازجي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذوكس واضحًا في تأكيده على أهمية الدور الذي تقوم به الكنيسة المشرقية في أنها تتنكّب عناء “إعادة اللحمة بين الكنائس الشرقية والغربية” وأنها راعية وحاضنة لأبناء الوطن كلهم مسلمين ومسيحيين. فأن يخاطب البطريرك اليازجي أبناء سوريا كلهم كراعٍ لهم فإنما يعيد للكنيسة دورها الرسولي الشامل في استنهاض ثقافة مغيّبة وتعاليم ادّعاها آخرون وتصرّفوا عكسها، فهو إذ يخاطب “أيها الأحباء المسلمون نحن لسنا فقط شركاء في الأرض والمصير، نحن بنينا معا حضارة هذه البلاد ومشتركون في الثقافة والتاريخ ولذلك علينا جميعًا أن نحفظ هذه التركة الغالية التي لدينا في سوريا”، وإذ يذكّر العالم ببولس الرسول ويكرر عبارة “لقد وجدت طريق دمشق” فهو يؤكّد على أن دمشق هي بوابة الهدى، وسوريا بكل فئاتها ستعيد أهل الضلال ممن قتّلوا واستباحوا الحرمات ومن شجّعهم ودعمهم إلى طريق الصواب، وهذا لا يتمّ بالوعظ والإرشاد والحسنى وسلام المسيح وحسب، بل يحتاج قتالاً يكون على رأسه تشبّث المسيحيين بأرضهم والوقوف بوجه مشاريع تهجيرهم التي ترعاها الدوائر الاستعمارية وبالتالي تهجير المسيحية لتبقى المنطقة نهبًا لدولة يهودية تقابلها دويلات إسلامية مغرقة في الظلام.
“لقد وجدت طريق دمشق” يعني أن دمشق هي الأصل والمرجعية والمدخل لصناعة تاريخ مجيد جديد، وزهو ما بعده زهو يلفّ أي مواطن سوري غيور وهو يرى كنيسته برجالها الاستثنائيين وهم يعيدون العالم إلى رشده ويدلّونه إلى طريق المسيح “طريق دمشق” وينتزعون زمام الأفعال، لتبقى سوريا منارة الثقافة الإنسانية التي أعطاها يسوع السوري قيمها الخالصة في المحبة الحقيقية والعدالة والمساواة.
هذه العبارة لا يُفهم منها إلا تأكيد البطريرك على سورية المسيح وسورية رسله وسورية تعاليمه وبشارته الإلهية الباقية ما بقي بشر.
حقًّا قام المسيح السوري، حقاً قام.
محمد سعيد حمادة
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)