بلدنا اليوم

بلدة معرتمصرين .. حكاية تطهير

لزيتون إدلب حكاياتٌ جمّة.. رمزيّة السلام في أغصانه أوهنُ هذه الحكايات… لا حمامة بيضاء تقبع على أبواب البيوت هناك، أو تحمل بمنقارها الوادع غصناً أخضر، مع أنّ نسيج العنكبوت ملأ الكثير من تلك البيوت، والنفوس أيضاً. لعلهُ ليس من دأب الكاتب في الصحافة أن يَشرع مفتتحاً بأسلوب الأدباء، لكنّ من يتلمّس وجد الأحداث المروّعة التي يعيشها الإنسان السوري اليوم، لا يجد لانضباط اللغة سبيلاً. جملة من القصص التي تحكي ألم الواقع، وجُرح الناس المفتوح على عبث كلّ الأيدي؛ تختزنُ من التفاصيل ما فيه كفاية لمن يعنيه أمرُ الإنسان في تلك البيئة المثقلة بالمواجع.

بلدة معرتمصرين وقصص الطائفيين الجدد هي بلدة تقع في شمال ادلب، على بُعد أقلّ من عشرة كيلومترات، عدد سكانها يتجاوز 33 ألف نسمة، بحسب إحصاءات انتخابات الإدارة المحلية في العام 2011. عُرفت البلدة بتسامحها المذهبي قبل الأزمة السوريّة، فضلاً عن نسبة المثقفين الملحوظة بين ساكنيها، وبقيت كذلك إلى أن حكم سلاح «المجاهدين» أهلها وكلام السياسة في شوارعها.

اللافت في هذه البلدة أنها مرّت على حكم نوعين متناقضين من «المجاهدين»؛ النوع الأول من أبناء المدينة أنفسهم، وهؤلاء حافظوا إلى حدٍّ بعيد على فرادة التنوّع الطائفي فيها، لكن الأمر تغير جذرياً لدى استيلاء النوع الثاني من «المجاهدين» على الساحة؛ حيث دخلت «جبهة النصرة» بعنفها المشهود، قتلت بعض أولئك المتسامحين، وهرب زعيم النوع الأول إلى محافظة أخرى.

وبدأت حكاية التطهير الطائفي المقيت في بلدة لم يتخيّل أهلها يوماً أن يُقتلوا لمجرّد أن أسلوبهم في الصلاة مختلف، وإن كان للإله ذاته! تمّ أخذ قرار بتطهير البلدة مذهبيّاً بالكامل، «لا تعدديّة في الدين بعد اليوم»، هكذا أراد شيخ الجماعة المسلحة في البلدة؛ وإرادتهُ وحي مُلزم لمن يسير في ركابه. بداية، تمّ اختطاف 31 رجلاً من غرف نومهم؛ وتمت مقايضة أرواحهم مع الدولة، مقابل مسلحين ألقى الجيش القبض عليهم. استجاب اللواء قائد المنطقة العسكرية (للمرة الأخيرة كما شدّد)، وتمّ الإفراج المتبادل.

ومن ثمّ أعلن نفي جماعي لطائفة كاملة، يتجاوز عدد سكانها في المدينة 7000 شخص، إلى قريتي الفوعة وكفريا المجاورتين. أخبرني أحد الأصدقاء القريبين جداً أن عمّه حسن ع. كان أحد المختطفين هؤلاء، وقد أقسم أمام العائلة كلها أن بعض المسلحين الذين دخلوا إلى غرفة نومه كانوا يتحدثون الانكليزية بطلاقة (وللأمر دلالته لدى المتتبع). لم تنته الحكاية هنا، فالكوميديا المتطرفة السوداء أكثر رعباً من النهايات المعتادة؛ بقيت عائلتان فقط من الطائفة الأخرى في البلدة، لأن مستوى الفقر المدقع الذي تعيشانه لا يتحمل حتى مُجرد التفكير في المغادرة. انتشر بعد أيام عدة مقطع لإحدى العائلتين (من آل عازارو)، وهم يُستتابون في المسجد، ومن ثم يُعلنون إسلامهم.. مجدداً!! (فحفظ الأمرُ دماءهم على الأقل)، وارتفع التكبير الصاخب من المحتشدين في المسجد، تفاؤلاً بهذا النصر المذهبي المؤزر. التناقض المثير في المشهد برمته، أن الذي أعلن «توبة وإسلام» هؤلاء ضمن مقاطع الفيديو التي انتشرت، هو أشهر مروّج مخدّرات في البلدة واسمه عبدو ح. ولن يلتفت الكثيرون للأمر طبعاً.

بلدة معرتمصرين حكاية تطهير

فجيعة آل رحال أمّا العائلة الأخيرة (من آل رحال) فكانت نهايتها دموية حد الفجيعة، افتقدت الأم الفقيرة تأخر زوجها وابنها في الرجوع إلى المنزل ذاك اليوم، ولقلب الأمهات إحساس فريد بنوع من الغيب. خرجت تبحث عنهم في الأزقة، وتسأل من تعرفهم ويعرفونها؛ أنكر غالبية من صادفتهم أي علم له بالأمر، إلى أن تجرّأ جار سابق على أن يدلها ناحية الساحة العامة في المدينة، والمعروفة بـ«ساحة الساعة”. الفجيعة كانت مذهلة.. تمّ ذبح الأب، أمام عيني ولده، ووضع رأسه على ظهره بتفنن وحشي، ومن ثم ذُبح الابن أيضاً (وعمرهُ لا يتعدى الـ14 عاماً)، ووضع بالطريقة ذاتها إلى جانب جسد أبيه.

كل ذلك جرى على أعين الناس وكاميرات الهواتف الجوالة، وللأسف البالغ فقد كان «التكبير» حاضراً بقداسته في الساحة أيضاً.

وصلت المرأة بعدما كان المشهد منتهياً، والمتفرجون منفضّون، وصل نشيجها حدّ السماء، من دون أن يهتز للمدينة جفن أصلاً، فالمذبوحون كفّار بحكم الشيخ، والرحمة لا معنى لها عندما تملك سيفاً وفتوى، (وللمتتبع «القويّ القلب» أن يُشاهد مقطع الذبح الموجود على موقع يوتيوب). آخر المتبقين من «المذهب الآخر» كان شاباً لديه إعاقة عقلية، اسمه مصطفى ب.، وهو يهيمُ في الشوارع أصلاً؛ لذا لم يكن من عناء في البحث عنه، واقتياده إلى «ساحة الساعة»؛ ومن ثم قتله برشقة رصاص، ودم بارد، والكثير من التكبير! تمّ «تطهير» البلدة تماماً من المذهب الآخر، ورسم المجاهدون الجدد لوحة انتصارهم الحضاريّ بدماء وهتافات. عينُ الإعلام كليلة عن رؤية كل هذا الشجى في وجدان السوريين، وربما لم يكن الإنسان حتى جزءاً بسيطاً من الهدف العام لصانعي الأحداث والمستفيدين منها. وإذ نحن نكتب جرحاً.. تكتب الأحداث المتسارعة جراحاً عصيّةً على الحصر. لا يمكن بالفعل أن نقدّر كيف يمكن ليدٍ أن تُبلسمها في وجه البلد المثخن بالكثير من عذابات الناس، وحكايات لم نستشرف بعد لها طريقاً للنسيان.

سيريان تلغراف | السفير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock