السفير : السياسة التركية خلال عام .. بين الرهانات والانهيارات
استكملت تركيا في العام 2012 ما كانت بدأته في العام 2011 من سلوك حيال التطورات الحاصلة في المنطقة، ولا سيما تجاه الأزمة السورية.
وإذا كان 2011 عام انهيار كل عناوين السياسة الخارجية التركية التي رفعتها في السنوات التي سبقت “الربيع العربي”، ولا سيما العمق الاستراتيجي وعموده الأساسي ما سمّي “صفر مشكلات”، فإن العنوان الأساسي الذي خرجت منه تركيا في العام 2012 هو أنها رسّخت في السياسة الخارجية هويتها الأطلسية، التي لم يسبق أن تجسدت حتى في ذروة الحرب الباردة كما تجسدت في عهد سلطة “حزب العدالة والتنمية” الإسلامية.
انتقلت تركيا في العام 2012 إلى دائرة أكثر فاعلية في التورط في الصراعات الإقليمية من جهة والصراعات الداخلية في كل بلد. ولقد كانت الأزمة السورية مجرد محور الصراع مع المعسكر الآخر الذي يضم كلا من العراق وإيران وروسيا والى حد ما لبنان.
واصلت تركيا حمل شعار أن النظام السوري لا مكان له في أي حل مستقبلي في البلاد، وانعكس ذلك رفضا للمعارضة السورية لأي مبادرة تتضمن حوارا مع النظام. وواصلت تركيا دعمها اللوجستي المكشوف للمعارضة السورية المسلحة عبر الحدود التركية التي تحولت إلى مقر وممر للمسلحين.
غير أن التطور المهم والنوعي كان في اتخاذ تركيا سقوط قذيفة على بلدة أقجاكالي ومقتل خمسة أتراك ذريعة كي تعتبر حدود تركيا حدودا لحلف شمال الأطلسي، وهو ما لم يسبق لأي مسؤول تركي أن أعلنه هكذا بصراحة في العقود الماضية. وربطت كل التقارير بين طلب صواريخ “الباتريوت” وإعادة حلف شمال الأطلسي تفعيل منظومة التعاون بين الحلف وإسرائيل، مع إضافة مصر إليها، وفق ما كشف من أسباب لرفع أنقرة الفيتو عن تعاون إسرائيل مع “الأطلسي”. وعلى هذا يتوقع مراقبون أن تعود الحرارة إلى العلاقات التركية – الإسرائيلية بعد الانتخابات الإسرائيلية بعد ثلاثة أسابيع.
وعملت تركيا على محاولة تفكيك القوى المعادية لها، فانطلقت من الجبهة العراقية عبر السعي لإقامة تحالف مع إقليم كردستان العراق بحيث يربك ذلك الوحدة الداخلية العراقية، ويضع حكومة نوري المالكي في مواجهة صدام داخلي يخفف من دعم العراق للنظام السوري. كذلك احتضنت نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي الذي حكم بالإعدام من جانب القضاء العراقي، ما اعتبر انه نصرة للسنّة وهو ما استتبع بتحريك الجبهة السنية في العراق عبر التظاهرات في الأنبار والرمادي ضد حكومة المالكي، في إشارة خطيرة إلى بدء تسخين الجبهة العراقية الداخلية والدفع بالعراق إلى خيارات خطيرة تخدم في النهاية هدف أنقرة الأساسي وهو إسقاط النظام السوري ولاحقا إسقاط حكومة المالكي المؤيد لدمشق ولإيران.
وانعكس الوضع في سوريا استمرار التوتر في العلاقة بين تركيا من جهة وإيران وروسيا من جهة أخرى، ولا سيما بعد نشر رادارات الدرع الصاروخي وصواريخ “الباتريوت” في تركيا.
ومع أن تركيا ساهمت في كل الأنشطة الدولية الهادفة إلى الإطاحة بالنظام السوري، فإن بعض التطورات قد عكس تراجعا في الاندفاعة التركية لمصلحة قوى إقليمية مثل مصر والسعودية وقطر. فتشكيل “الائتلاف الوطني السوري” في الدوحة اعتبر سحبا للبساط من تخت قدمي تركيا التي كانت عرابة إنشاء “المجلس الوطني”.
إن أحداث غزة الأخيرة أظهرت فشل الهدف الذي تسعى إليه السياسة الخارجية التركية، وهو أن تكون تركيا لاعبا مؤسسا لنظام إقليمي وأن تكون قائدة لشرق أوسط جديد ترسم هي ملامحه، كما عبر عن ذلك وزير الخارجية احمد داود اوغلو في البرلمان التركي في 27 نيسان الماضي.
ولا شك غي أن الأزمة السورية قد جلبت حتى الآن لتركيا مخاطر جمة، منها الأمني، الذي تمثل في العام 2012 في تصاعد عمليات حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي وكذلك في نشوء واقع كردي في شمال سوريا يمكن أن تعتبره أنقرة تهديدا لها، من دون أن يبرر لها اعتباره ذريعة للتدخل في الشأن السوري. كما أن تصاعد النزعة المذهبية والقومية في الخطاب الرسمي التركي متصلا بالوضع السوري والإقليمي انعكس مزيدا من الاحتقان المذهبي داخل تركيا، بين قسم من السنّة والعلويين ومن التوترات العرقية مع الأكراد. ولم تنج تركيا من تأثيرات الوضع السوري على اقتصادها الذي قارب الصفر في المحافظات الحدودية المحاذية لسوريا.
ولم تستطع تركيا في الوقت نفسه أن تبقى بمنأى عن تأثيرات خطف مجموعات سورية معارضة لأحد عشر لبنانيا كانوا عائدين من زيارة الأماكن المقدسة في إيران عبر الأراضي التركية. وهو ملف يبقى مفتوحا على كل الاحتمالات في ظل تراخي أنقرة في التعامل بجدية مع هذا الملف.
لا يزال رهان تركيا الأساسي هو أن إسقاط النظام في سوريا سيكون المفتاح لتحقيق نصر إقليمي كبير، يمتد لاحقا إلى العراق ومنه إلى إضعاف إيران، وربما توجيه ضربات إسرائيلية وأميركية لها، فضلا عن محاولة تجيير أي إسقاط للنظام في سوريا لإضعاف احد حلقات النفوذ الإيراني في المنطقة وهو “حزب الله”. وفي استتباع لذلك تضييق الخناق على النفوذ الروسي وانتقال الصراع إلى داخل روسيا نفسها. وهي رهانات تخدم فقط المصالح الإسرائيلية و”الأطلسية” والغربية من جهة وتقوّي حالة الصراع المذهبي في المنطقة وتعيد المنطقة إلى مربع الفتن المذهبية القاتلة.
إن دون هذه المقامرة التي تنخرط تركيا جزءا بنيويا فيها توازنات لن يخرج احد منها منتصرا. وهي رهانات واهمة تحتاج إلى تبصّر بالتاريخ العربي والإسلامي والعالمي حتى لا تدفع تركيا، العثمانية الجديدة، مرة ثانية ثمن سياسات خاطئة، خصوصا أن الذكرى الأولى للحرب العالمية الأولى التي انتهت إلى انهيار السلطنة العثمانية هي على الأبواب.
سيريان تلغراف