حلب الممزقة بين جوعِ أبنائها وشبح الإمارة الإسلامية
تحت عنوان (حلب المنكوبة بجوعها وأمنها … و«إمارة» الإسلاميين) يتحدث صهيب عنجريني عن مدينة حلب التي هي عاصمة الاقتصاد السوري، وواسطة العقد على طريق خان الحرير ، أم التجارة والصناعة ، والمدينة التي ندر أن ترى أحداً من سكانها يشتكي من انعدام فرص العمل .
وحتى بعدما صارت ميداناً لأعنف المعارك وتقطعت أوصالها ، وسُفكت دماء أبنائها ما بين «التحرير» و«التطهير» ، أصرَّ هؤلاء على التشبث بها ، وخلقوا لأنفسهم فرص عملٍ وموارد بديلة .
وبات طبيعياً أن ترى أحد صناعييها أو تجارها – من منتصف الهرم الاقتصادي – قد افترش ركناً على أحد أرصفتها يعرض فيه بضائع من شتى الأصناف ، ليتحول كل حيٍّ من أحيائها إلى سوق شعبي يضم كلَّ ما يخطر ببال .
ولفترة طويلة شكَّل الغنى النسبيُّ ، الذي تتميز به حلب ، صمَّام أمان حال بين العديد من أبنائها وبين الانضمام إلى موجة التظاهرات التي شهدتها معظم مدن البلاد، التي كان للعامل الاقتصادي دورٌ أساسيٌّ فيها، على الرغم من إصرار الكثيرين على تجاهل هذا العامل. وبعد أن انشغل العالم بتساؤلات من قبيل «لماذا لم تتحرك حلب؟»، ها هي تكاد تنفرد بدفعها أبهظ ثمنٍ دفعته مدينة سوريَّة منذ بدء الأزمة في البلاد.
ثمن تنوعت تجلياته بدءاً من دماء أبنائها وصولاً إلى أسوأ وضع معيشي عرفته المدينة منذ عقود طويلة. فالمدينة التي كانت حتى فترة قريبة قادرةً على إطعام البلاد بأسرها، باتت اليوم عاجزةً عن إطعام أبنائها، ورازحةً تحت واقعٍ مزرٍ بلا كهرباء ولا وقود، ولا خبز… ولا حتى مياه شرب !
الثَّمن الفادح
القاسم المشترك بين معظم الحلبيين هذه الأيام، هو حالة الذهول وعدم تصديق ما وصلت إليه مدينتهم، متداخلاً مع نقمة على كل الأطراف المتصارعة فيها. على الرغم من محاولة الحلبيين النأي بأنفسهم ومدينتهم عن هذا الصراع، وهي محاولاتٌ لم تأتِ من فراغ، فقد دفعت المدينة في الثمانينات ثمناً باهظاً عندما احتضنت جماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من أن حماه اشتهرت بأنها دفعت الثمن الأفدح في تلك الفترة، إلا أن الثمن الذي دفعته حلب لم يكن أقلَّ فداحة.
اهتمامٌ نسبي
مع قدوم الرئيس بشار الأسد إلى الحكم، تبدَّل الحال. وبدأت المدينة تنال قسطاً من الاهتمام الذي تستحقه، وخلافاً لوالده، زارها الأسد الابن مراتٍ عدة، فقفزت المدينة إلى واجهة المشهد الاقتصادي، وباتت عنواناً بارزاً للتقارب مع الجار التركي، ودخل عددٌ من رجالات المدينة إلى الدائرة المقرَّبة، بشقَّيها السياسي والاقتصادي. على سبيل المثال، حمل آخر تعديل حكومي ثلاثة من أبنائها إلى الحكومة الحالية تسلموا حقائب الصناعة والصحة والعدل.
أسهم هذا الاهتمام النسبي، متضافراً مع عوامل كثيرة منها غلبة الطابع التصوفي على نهج رجال الدين الإسلامي في المدينة، وإصرار أبرز الرموز الدينية للمدينة على الحؤول بينها وبين الانزلاق في الأزمة وعلى رأسهم مفتيها السابق د.إبراهيم سلقيني الذي توفي في أيلول العام 2011، في بقاء المدينة خارج حالة التظاهر إلى درجةٍ جلبت على حلب وأبنائها نقمة المعارضين. هؤلاء راحوا يتفننون في إهانة الحلبيين، سواء لفظياً عبر اتهامهم بفقدان النخوة وما إلى ذلك أم من خلال ممارسات حولتهم إلى أهداف مشروعة للخطف والسلب والتعذيب الجسدي في مناطق مثل مدينة معرة النعمان الواقعة على الطريق الدولي بين حلب ودمشق.
أزمات في عز الرخاء… فمنعطفٌ خطر
وقوف المدينة في صف النظام لم يَحل بينها وبين مختلف أنواع الأزمات المعيشية، ففي الوقت الذي كانت فيه السيارات تجوب مدناً مثل اللاذقية وطرطوس تبيع الغاز المنزلي بسعره النظامي (450 ليرة للأسطوانة الواحدة)، وصل سعرها في حلب إلى خمسة أضعاف. أضف إلى ذلك أزمات كانت تطال المازوت والبنزين ما بين فترة وأخرى. ويبدو أن السلطات قد اطمأنت إلى فكرة أن المدينة لن تنضم إلى الحراك أيّاً كانت المستجدات، فاكتفت بالتعامل مع تلك الأزمات على طريقة رد الفعل، من دون اتخاذ خطواتٍ وقائية… ولم تأكل حلب الزبيب والعسل كما أمُلَ أبناؤها. ومع تمكن مجموعات المعارضة المسلحة من بسط السيطرة على أجزاء واسعة من الريف الحلبي، انطلاقاً من محافظة إدلب، وجد هذا الريف نفسه في مهب الحلّ العسكري.
تصاعد العمليات العسكرية في الريف حمل أبناءه على النزوح إلى المدينة. نزوح اختلفت انعكاساته عن نزوح أبناء مدن حماه وحمص إلى حلب، فعدد كبير من أبناء الريف حلوا ضيوفاً لدى أقارب لهم يقطنون الأحياء الشعبية من المدينة، الأمر الذي أفرز ملامح بيئةٍ حاضنةٍ لتظاهرات انضمت إلى تلك التي دأبت على الخروج في جامعة حلب ومدينتها الجامعية. وكالعادة تم اعتماد الحل الأمني للتعامل معها، الأمر الذي ولَّد – بالتضافر مع الضَّخِّ الإعلامي التهييجي الذي اضطلعت به وسائل إعلام بارزة عبر مسار الأزمة السورية – شرارةً كانت مفصليةً في جرِّ الويلات إلى المدينة.
شكَّل تاريخ 20 آب منعطفاً خطيراً في المشهد الحلبي، حيثُ بثت بعض القنوات يومها مشاهدَ مباشرة لمعركةٍ دارت في حي صلاح الدين بين الجيش النظامي وبين ميليشيات الجيش الحر. تاريخ كان الانطلاقة الفعلية لـ«معركة حلب»، التي أكّد طرفاها أنها ستكونُ خاطفةً وحاسمة، غيرَ أنَّ أحداً لم يستطع حسم المعركة التي ناهزت أيامها الـ150 يوماً حتى الآن.
شعورٌ بالخذلان
شعورٌ بالخذلانٍ يملأ الحلبيين اليوم، على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم. «المؤيدون» يشعرون أن الدولة خذلتهم وتهاونت في حماية مدينتهم، وإلا فما معنى أن «تُحسم معركة دمشق مرتين متتاليتين خلال أيام معدودة، فيما تغرق حلب شيئاً فشيئاً في الدماء والظلام والجوع»، وفق تعبير هؤلاء؟ الرواية التي تحدثت عن «خيانة» كان بطلها رئيس فرع الأمن العسكري السابق محمد المفلح الذي «باع المدينة للأتراك وسهَّل دخول مسلحين إليها قبل أن تتم تصفيته لاحقاً» تلقى رواجاً كبيراً في أوساط المؤيدين، لكنَّ هذا لا يبرر، حسب رأيهم، تأخُّر الحسم، ولا بدَّ أنَّ هناك «خيانات أخرى ومتتابعة».
على المقلب الآخر، يقرُّ المعارضون بأنَّ رهانهم على «التحرير» عاد بنتائج مريرة، فمسلحو الجيش الحر بألويته وكتائبه الكثيرة «تعاملوا مع المدينة بطريقةٍ انتقامية، وكأنهم يعاقبون أبناءها على مواقفهم في بدايات الأزمة»، الأمر الذي تجلَّى في خروج تظاهراتٍ كثيرة في مناطق يسيطر عليها مسلحو المعارضة تطالبُ بخروج هؤلاء من أحيائهم، مرددينَ هتافاتٍ من قبيل «الجيش الحر حرامي… بدنا الجيش النظامي».
المدينة تنزلق في قبضة المتشددين
وسط حالة النَّقمة العامة، تلوحُ بوادر ظاهرة خطيرة تتجلى في إحكام المتشددين قبضتهم على بعض الأحياء، وباتت المدينة اليوم معقلاً رئيساً للتنظيمات الجهاديَّة، على رأسها «جبهة النُّصرة»، لا سيما في ريفها وأحيائها الشعبية. هذه التنظيمات تعتمد على ترغيب أبنائها حيناً، وعلى ترهيبهم أحياناً، كما تستفيد من قرب المدينة من الحدود التركية التي تشكل مصدراً دائماً لإمدادها بالأسلحة والجهاديين. وقد عمدَ هؤلاء إلى استغلال نفوذهم لتغيير لسان حال متظاهري الأحياء الشعبية ليصبح «الجيش الحر حرامي… بدنا الجيش الإسلامي». وترتكز «النصرة» في سبيل تأمين حاضنٍ شعبيٍّ لها على تأمين احتياجات المواطنين في المناطق التي تسيطر عليها، فتقوم بتوزيع الخبز والمواد الغذائية، ما يبرّر رفع لافتاتٍ من قبيل «جبهة النصرة تمثلني… الائتلاف الاستعماري الفرنسي لا يمثلني» في تلك المناطق. وعند الحاجة لم يتورع مسلحو الجبهة عن استخدام القوة، حيث أطلقوا النار على متظاهرين رددوا هتافاتٍ ضدَّ أسلمة الحراك في حي بستان القصر، وهددوهم بالقول: «سنذبحكم يا كفرة» ومزّقوا لافتةً رفعها أحد المتظاهرين مكتوباً عليها: «لا إسلامية ولا علمانية بدنا إسقاط النظام». ويشرح أحد الناشطين واقع المدينة اليوم بالقول: «المخاوف من سطوة الإسلاميين المتشددين تبدو الأخطر في هذه المرحلة، فلهؤلاء هدفٌ لا علاقة له بسقوط النظام، إنهم يطمحونَ لإقامة إمارة إسلامية في حلب، ما يعني معركةً أخرى قادمة إلى المدينة في حال استطاع أحد الجيشين النظامي أو الحر حسم المعركة بينهما لصالحه، معركة ستكون أدهى وأمر مما يدور الآن».
وفي المحصلة، تجد حلب نفسها على مشارف العام الجديد ممزقةً بين جوعِ أبنائها وعطشهم، وبين شبح الإمارة الإسلامية، وبين حسمٍ لا يبدو أحدٌ من الأطراف على مشارف تحقيقه بعد… وهكذا تبلع المدينة الموس على الحدَّين.
سيريان تلغراف