لم تكتفِ زيارة وزير الخارجية الروسي لدمشق بتأكيد الدعم السياسي وحماية النظام من محاولة الخارج تقويضه وتبرير الحسم، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك: استعادة «الصداقة» بين جيشي البلدين وجهازي استخباراتهما. لذا قيل في الشقّ الأمني أضعاف ما قيل في الشقّ السياسي
لم يكن الجانب الأمني في زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لدمشق، واجتماعه بالرئيس السوري بشّار الأسد الثلاثاء الفائت (7 شباط)، أقل أهمية من الجانب السياسي. لم تقتصر الأهمية هذه على مرافقة رئيس الاستخبارات الخارجية ميخائيل فرادكوف للوزير، بل طاولت أيضاً انضمام رئيس الاستخبارات العامة اللواء علي المملوك إلى الوفد الرسمي السوري في المحادثات الموسّعة بين الأسد ولافروف، ثم في ما بعد في المحادثات غير المعلنة بين رجلي الاستخبارات.
كلاهما، تبعاً لوظيفته، مطبوع بالعمل البعيد عن الضجيج الإعلامي والتحرّك بسرية. نادراً ما يُرافق مسؤول الاستخبارات الخارجية الروسية مسؤولاً سياسياً رفيعاً، أو يُكشف عن مهمته، أو يُعلن على الأقل اسمه في عداد وفد كجزء مكمّل للمحادثات الرسمية. ونادراً كذلك ما انضم مسؤول الاستخبارات العامة إلى اجتماعات الرئيس السوري الذي يفضّل، في أحسن الأحوال، اصطحاب وزير الدفاع أو رئيس الأركان، نظراً إلى الكتمان الذي يحوط بدوره في المعادلة السياسية السورية. وفي نظام، كالنظام السوري، تدخل السياسة في صلب مهمات رجال الاستخبارات أكثر منها دخولها في مهمات رجال السياسة في الحكومة ومجلس الشعب والجبهة الوطنية التقدّمية. مع ذلك، يتردّد اسم المملوك كثيراً في دوائر الاستخبارات الأوروبية، وأخصّها الفرنسية،.
اتخذ الاهتمام الأمني الروسي بما يجري في سوريا بعدَه في شقّي المحادثات، استناداً إلى معطيات أبرزها:
1 ـ استعجال الروس تحريك معاهدة التعاون الاستراتيجي بينهم وبين سوريا، عبّر عنه ما كُشف عن عودة عدد من خبراء روس إليها، والتنسيق مع ضبّاط الجيش السوري في سبيل تعزيز قدراته العسكرية في مواجهة التحدّيات التي يتعرّض لها. في جزء من تحريك المعاهدة والالتفات الروسي إلى الجيش السوري، المناورات الصاروخية البرية والبحرية التي نفذها الجيش السوري بالذخيرة الحية في 4 كانون الأول الماضي، ولم تكن موسكو بعيدة عنها في توقيتها إبّان النزاع المسلح بين النظام السوري ومعارضيه، ولا في العبء المالي وإنفاق الذخائر اللذين يترتبان على المناورات، بعد أيام من تسليم موسكو سوريا صواريخ عابرة مضادة للسفن للدفاع عن السواحل، في إطار عقد كان قد وقعه البلدان عام 2007.
2 ـ الاهتمام الذي تبديه موسكو حيال الجيش السوري، إذ تنظر إليه على أنه ربيبها الذي لا يسعها التخلي عنه، أو السماح بتدميره بغية إسقاط النظام. عتاده وسلاحه وتدريبه شرقي من عندها منذ عقود طويلة، خلافاً للدول العربية الأخرى، وأخصّها دول مجلس التعاون الخليجي التي تقود المواجهة مع الأسد؛ إذ بَنَت ترساناتها من العتاد والسلاح الغربي، الأميركي والفرنسي خصوصاً. أضف وجود قاعدتين عسكريتين بحريتين في مرفأي اللاذقية وطرطوس هما آخر موطئ قدم عسكرية روسية في المنطقة. جهرت موسكو أيضاً بالمضي في تسليح الجيش السوري، ولا تزال تعدّه ضماناً قوياً وحقيقياً لحماية الموقع التفاوضي للرئيس، وتنبّهت إلى تماسك قطعه وسيطرته على أسلحته في الأشهر المنقضية من الاضطرابات في هذا البلد. أعاد الاتحاد السوفياتي السابق بناء الجيش السوري كاملاً عام 1983، بعد سنة فقط على الحرب التي نشبت بينه والجيش الإسرائيلي عند اجتياح الأخير لبنان، ودمّر قسماً كبيراً من سلاح الجوّ، فضلاً عن سلاح البرّ.
3 ـ ليس خافياً أن الدافع المباشر للإعلان عن الحسم العسكري ضد المعارضه المسلحة ـــــ وهو يُسميه «تنظيفاً» ـــــ حظيه بتفهّم روسي له، أتاح توقيته الفيتو المزدوج الروسي ـــــ الصيني في مجلس الأمن في 4 شباط. بذلك أحاط الأسد النظام بحماية خارجية وفّرها له الفيتو، كان بمثابة خط دفاع في مواجهة تهديدات الغرب ضَمَنَه رفض موسكو أي تدخّل عسكري دولي في سوريا،
توخّى الشقّ الأمني في زيارة لافروف ـــــ فرادكوف الاطمئنان إلى قدرات الجيش السوري على جهه المسلحين. بيد أن الوزير الروسي أفصح عن موقف حكومته بتمييزها النظام عن الدولة، عندما حضّ الرئيس السوري على استعجال الإصلاح وفق الروزنامة التي أطلعه عليها، وعلى الحوار الداخلي، في ما بدا موافقة ضمنية على ضرورة الانتقال إلى نظام سياسي آخر تحت سقف الأسد بالذات، وفي ظلّه على رأس الدولة حتى موعد أول انتخابات رئاسية. لكن الموقف ليس كذلك في تحذير لافروف من انهيار الدولة واحتمال نشوب حرب أهلية، اللذين يحول دونهما تماسك الجيش وسيطرته على البلاد، من وجهة النظر الروسية.
4 ـ تجمّعت لدى الوفد الروسي معلومات، أجرى لها في دمشق تقاطعاً، عن خلايا استخبارات بعضها عربي والآخر غربي، ولمّح إلى نشاط متزايد لخلايا قطرية وفرنسية وبريطانية وألمانية تعمل في الأرياف، وفي حمص خصوصاً، على مؤازرة المعارضة المسلحة بتزويدها خبرات ومعلومات وتدريبها، فضلاً عن معلومات مماثلة عن تهريب كميات ضخمة من الأسلحة إلى داخل سوريا لتسعير الصدام المسلح.