فشل استخباراتي فرنسي في حمص
بينما تتهم باريس دمشق بأنها نظمت مقتل الصحفي في القناة الثانية الفرنسية جيل جاكيه في حمص فإن فريقا صحفيا روسيا قدم عرضا مختلفا تماما لما حصل. وحسب الفريق الروسي فإن جاكيه قاد تحت غطاء صحفي عملية لصالح الاستخبارات العسكرية الفرنسية باءت بالفشل. وأن الاتهام الفرنسي ليس سوى عملية تغطية على مسؤولية فرنسا في التحركات الهادفة لضرب استقرار سوريا.
لقي الصحفي الفرنسي جيل جاكيه حتفه في مدينة حمص السورية أثناء كان جاكيه على قناعة تامة إن ليس هناك مجموعات مسلحة إرهابية بل ثورة يتم قمعها بالدم، رفض جاكيه أي حماية أمنية بل أنه رفض أي احتياط وقائية. وقد استأجر ثلاث سيارات نقل جماعي له وزملائه الذين يشاطرونه قناعته ووجد مرافقا –مترجما-دليلا من أبناء المنطقة لمساعدته في مهمته في التنقل والاتصالات مع المعنيين والقيام بأعمال الترجمة الفورية الضرورية.
وطلب الجميع لقاء ممثلين عن الطائفة العلوية قبل أن يدخلوا إلى أحياء المتمردين في باب السباع وبابا عمرو. وعند وصولهم إلى فندق السفير في حمص التقوا صدفة بضابط أمن سوري عرض عليهم مرافقتهم إلى حي الناجحة حيث كانوا على موعد مع مساعدة محافظ حمص. وبالفعل وصلوا برفقة هذا الضابط إلى الحي المذكور والتقوا المسؤولين وقابلوا عددا من أبناء الحي والمارة. وعند الساعة الثالثة إلا ربعا طلبت منهم مساعدة المحافظ مغادرة الحي لأن وقف النار “العرفي” ينتهي عند الثالثة. وكان فريق التلفزيون البلجيكي الفلاموني VRT قد وصل إلى حي عكرمة الموالي للرئيس الأسد ودخل إلى بعض المنازل للقاء الأهالي وتجمع عدد من المواطنين حول الحافلة التي تقلهم والتي وضعتها وزارة الإعلام السورية بتصرفهم. في هذه الإثناء كان أعضاء ومناصرون لجمعية ضحايا الإرهاب يتجمعون حول الحافلة التي تقل حوالي أربعين صحافيا انكلو ساكسون وهي حافلة وضعتها وزارة الإعلام السورية بتصرفهم ويطلقون هتافاتهم المؤيدة للرئيس السوري بشار الأسد.
وعند الثالثة تماما وكما كل اليوم عادت عاد إطلاق النار والقذائف الصاروخية التي أصاب أحدها خزان المازوت أمام أحد البيوت بينما سقطت أخرى أمام إحدى المدارس بينما أصابت الثالثة المتجمعين من أنصار الرئيس الأسد وقتلت اثنين منهم. في هذه الإثناء صعد الصحفيون إلى التراس لتصوير الأضرار وصدف أن توقف إطلاق القذائف والنيران بعض الوقت فأعتقد الصحفي جيل جاكيه أن إطلاق النار قد انتهى، فنزل مع المصورة لتصوير الضحايا وجثث المتظاهرين من مؤيدي الأسد الأضرار في الشارع. وعند وصوله إلى باب المبنى حيث يختبئ مناصرون للأسد أطلقت عليهم قذيفة قتل فيها جاكيه وستة من أنصار الأسد المتجمعين. بينما جرحت في ساقها المصورة التلفزيونية التي كانت ترافقه.
وفي ظل هذا الرعب والفوضى العارمة تم نقل الجثث والجرحى إلى المستشفيات بالسيارات وقد قتل في هذا الحادث فقط 9 ضحايا وجرح 25 واستمرت الاشتباكات طيلة الليل.وفي الملاحظة الأولى يبدو أن السيد جيل جاكيه قد قتل بالصدفة. فقد وصدف وجوده في المكان السيئ وفي اللحظة السيئة. خاصة أن قناعته حول ما يحدث في سوريا جعلته يعتقد أن ليس عليه أن يخشى سوى القوات الحكومية. ولهذا رفض أي مرافقة ولم يقم بأي احتياط أمنية ولم يحترم ساعة الصفر لانتهاء وقف النار العرفي الذي تم تنبيهه إليه. وبالتالي فهو لم يستطع تقدير الوضع لكونه كان ضحية الهوة بين الدعاية التي صدقها والواقع الذي انكره.
في هذا المناخ لا نعلم لماذا عمدت فرنسا، بعد أول رد فعل لها وكلن رد لائق بطلب تحقيق بظروف موت أحد مواطنيها، عمدت إلى اعتبار أن جيل جاكيه قد اغتيل من قبل السلطات السورية ورفضت تشريح الجثة في سوريا بحضور خبراء فرنسيين. في الصحافة كان واضحا وصريحا بتصريحات جاك دوبلسي أحد الصحفيين الذين كانوا برفقة جاكيه.
في الصحافة الفرنسية لم يكن الأمر دقيقا كما يظهر. فثمة شك دائم بهوية القذائف القاتلة ومصدرها. فالعديد من الصحفيين يتحدثون عن قذائف هاون للجيش السوري. بينما يؤكد الجيش السوري أن هذا النوع من القذائف يستخدمه يوميا المسلحون الإرهابيون في حمص.
ولكن حسب عدد كبير من الشهود فإن القذائف أطلقت بواسطة قاذفات صواريخ محمولة على الكتف. وقد عرض تلفزيون الدنيا أجنحة لهذه القذائف الصاروخية.
في هذا الوقت العديد من المنتديات تتهم الجيش السوري وبصورة لا تخلو من الخلفيات بينما يصر مناصرو الرئيس الأسد على اتهام الإرهابيين.
في النهاية فإن هذا التفصيل لا يثبت شيئا بالتأكيد فإن الجيش السوري يستخدم الهواوين لكن ليس من هذا النوع. والمجموعات المسلحة تستخدم القذائف الصاروخية ولكن لا يمنع إن يعدد كل طرف من أسلحته.
دراسة الصور والفيديو تثبت أن أجساد الضحايا ليست مليئة بالشظايا كما لو أنهم أصيبوا بقذيفة متفجرة وليست مدماة. بل على العكس فقد بقيت سالمة والدماء تسيل من الفم والأنف والأذن كما يحصل جراء انفجار صاروخ حراري الذي يحدث نزفا داخليا كما أن نقطة سقوط القذيفة لا تؤشر إلى أي تشظي.
في مطلق الأحوال فإن خبراء ومحققين سوريين وعناصر من لجنة المراقبين العرب سارعوا إلى موقع الحادث وقد وجدوا بقايا قذائف هاون من عيار 82 ملم وذنب قذيفة صاروخية صناعة إسرائيلية.
وبالنتيجة فإن من حق السلطات الفرنسية أن تدرس فرضية الاغتيال لتبحث عن مأساة تستخدمها لتبرير طموحها بمحاربة سوريا. لكن إذا كان لدى الدبلوماسيين الفرنسيين تعليمات بالبحث عن الحقيقة فإنهم على ما يبدو أن لديهم تعليمات بأن لا يدعوا السوريين يعرفونها. وهكذا منعوا أي ناطق بالفرنسية من الاقتراب من المصورة التلفزيونية كارولين بوارون رفيقة الصحفي جيل جاكيه والتي سهرت أمام جثمانه طيلة الليل. فالشابة كانت تحت الصدمة ولا يمكن أن تسيطر على تصرفاتها ويمكن لها أن تحكي الكثير. كما إنهم منعوا تشريح الجثة كما أنهم أعادوا الجثة إلى فرنسا دون تشريح أو أي تحقيق. فما هي الفرضية التي تريد فرنسا أن تتحقق منها لنفسها وتخفيها عن الرأي العام.؟
هنا يبدأ إبحارنا في عالم الاستخبارات الغربية التي تقود في سوريا حربا منخفضة الضغط شبيهة بالتي تم تنظيمها في أميركا الوسطى في الثمانينات وحديثا في ليبيا للتحضير لتدخل حلف شمال الأطلسي.
جيل جاكيه كان صحفيا يحترمه زملاؤه وقد حصل على العديد من الجوائز كجائزة البير لندن وجائزة المراسلين الحربيين غيرهما ولكنه لم يكن فقط هكذا….
وفي رسالة رسمية وعلى الأوراق الرسمية لمؤسسة التلفزيون الرسمي الفرنسي (فرانس تلفزيون) ومؤرخة في الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2011 طلبت رئيسة تحرير البرنامج الذي يعمل لصالحه جاكيه (مهمة خاصة) وهو البرنامج السياسي الأكثر مشاهدة في فرنسا، طلبت تأشيرة دخول لجيل جاكيه إلى سوريا ، مدعية أنها تريد التأكد من الرواية السورية للأحداث والتي تقول “أن الجنود السوريين هم ضحية كمائن واشتباكات مع المجموعات المسلحة التي تعبث بالبلاد. وتضيف في رسالتها أنها تطلب أن يستطيع جاكيه متابعة يوميات جنود الفرقة الرابعة المدرعة السورية والتي يقودها الجنرال ماهر الأسد (شقيق الرئيس السوري) واللواء المدرع الثامن عشر الذي يقوده الجنرال وجيه محمود. وقد فوجئت السلطات السورية بوقاحة الفرنسيين: فمن جهة يدربون المجموعات المسلحة التي تهاجم القوات الموالية ومن جهة أخرى يطالبون بإدخال عميل للاستخبارات العسكرية في صفوفهم. ولم يرد السوريون على طلب فرانس تلفزيون.
وهكذا حاول جيل جاكيه الدخول بطريقة أخرى. فطلب عن طريق راهبة من طائفة الروم الكاثوليك تحظى باحترام السلطات السورية، الأم انياس مريم دولا كروا التي استطاعت أن تنظم أول وفد لصحفيين غربيين منذ بداية الأزمة.
لهذا رابطت عند وزارة الإعلام السورية إلى حين حصولها على تأشيرة دخول واعتماد صحفي للراحل جيل جاكيه وفريقه. لكن الأمور تفاعلت ابتداء من العشرين من كانون الأول / ديسمبر حيث تزاحمت طلبات وسائل الإعلام على الأم انياس مريم لمساعدتهم في الحصول على تأشيرات دخول واعتمادات صحفية. كما طلب جيل جاكيه تأشيرة أخرى لصديقته المصورة كارولين بوارون وللمراسلة الصحفية فلورا وليف اللتين تعملان لدى مجلة باري ماتش وبلغ عدد الصحفيين 15 صحفيا من فرنسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا. ويبدو واضحا أن الفرنسيين والهولنديين كانوا في معظمهم يعملون لصالح الاستخبارات الخارجية الفرنسية المعروفة باسم DGSE وبدا أن وقتهم بات ضيقا وعليهم الوصول إلى سوريا لإكمال مهمتهم.
وعودة قليلة لا بد منها إلى الوراء حيث يجب التذكير أن مدينة حماه هي الموئل الرئيسي للإخوان المسلمين لكن العناصر المسلحة السورية اختارت حمص كمركز تحرك لها رغم إنهم لا يسيطرون إلا على حيين اثنين لكن حمص نقطه اتصال وسطية في داخل البلاد.
وكان المسلحون قد قاموا بعملية خطف لمهندسين إيرانيين يعملون في مركز لتوليد الطاقة الكهربائية بعد أن طلبت الولايات المتحدة من المهندسين الكنديين مغادرة البلاد. وقد تم خطف المهندسين الإيرانيين وتلقت وسائل الإعلام رسائل تعلن فيها إحدى المنظمات غير المعروفة مسؤوليتها عن عملية الخطف منظمة تطلب بوقف المد الشيعي في سوريا. بعدها أكدت السفارة الإيرانية في دمشق أنها بدأت مفاوضات مع الخاطفين على أن تتسلم ما يفيد بأنهم أحياء. لكن المفاجأة أتت عندما لم يصل إلى السفارة مباشرة ما يفيد أنهم أحياء بل نشرت صورهم في مجلة باري ماتش الفرنسية في عدد 5 كانون الثاني/ يناير حيث يدعي مصور في المجلة مجهول الهوية أنه دخل الأراضي السورية خلسة وقام بتصويرهم بين يدي خاطفيهم. ومن الممكن أن يكون القارئ الفرنسي قد تساءل ما إذ كان هذا المصور إنسان ليقوم بتصوير المخطوفين دون أن يعمل على إنقاذهم أو مساعدتهم؟ ليس مهما الآن المهم هو أن المخطوفين أحياء وأن الخاطفين تحت سيطرة الاستخبارات الفرنسية. وبغياب أي رد فعل من هذه الجهة أو تلك فالأكيد أن المفاوضات تسير في طريقها.
هذا الأمر مدعاة للشك أن تكون مهمة جيل جاكيه الذي أصر على أن لا ترافقه أي حماية في حمص قد يكون مكلفا بمهمة ما تتعلق بالمخطوفين الإيرانيين.
كما يمكن فهم الحالة العصبية للسفير الفرنسي في دمشق في ظرف كهذا حيث يمكن أن يكون جيل جاكيه قد قتل على يد المسلحين في حمص وأن يتأثر التحالف التركي – الفرنسي أو أن نصل إلى حرب أطلسية على سوريا.
والسفير الفرنسي في دمشق الذي لم يكن لديه الوقت الكافي لإعادة ترتيب الأحداث وجمعها قام بمحاولة منع السوريين من فعل ذلك. وبعكس الأعراف الدولية رفض تشريح الجثة، لكن السوريين فعلوا ما يمكن فعله.
وسارع السفير الفرنسي بسحب “الصحفيين” الفرنسيين والهولنديين بموكبه وسياراته المصفحة تاركا في الساحة مصور وكالة الأنباء الفرنسية والأم انياس مريم وسارع إلى فندق السفير لسحب الأغراض الشخصية لصحفييه من فندق السفير في حمص وسارع للوصل إلى سفارته في دمشق ومنها إلى المطار حيث كانت بانتظارهم طائرة خاصة نقلتهم إلى مطار لوبورجيه الفرنسي.
وفي باريس سارعت السلطات الفرنسية للقيام بعملية التشريح قبل وصول الخبراء السوريين الذين عليهم المشاركة بهذه العملية حسب القانون الدولي المرعي في مثل هذه الحالات.
وسرعان ما أعلن السيد جاك دوبلسي، الذي كان برفقة جاكيه وهو ليس صحفيا، أن السلطات السورية قد نصبت لهم كمينا لقتله ورفيقه جاكيه. وقد تبين أن السيد دوبلسي ليس صحفيا أساسا بل معروف بأنه يعمل لصالح منظمة غير حكومية تعمل كغطاء للاستخبارات الخارجية الفرنسية. بالتأكيد مقتل جاكيه كارثة للإيرانيين والسوريين أولا لأنه قتل على الأراضي السورية وثانيا لأن مقتله حرمهم من فرصة ثمينة لمعرفة مكان المخطوفين والخاطفين.
وهذه ليست أول حالة تضع فيها الاستخبارات الفرنسية نفسها بتصرف استخبارات الولايات المتحدة الأميركية من شاطي العاج مرورا بليبيا. لكن الملفت أن يضع ساركوزي بلاده في هذا الموقع الوضيع كمحتجزي الرهائن. ولن يكون مفاجئا فيما لو أن دولة مارست الإرهاب على ارض الآخرين أن تحصده على أرضها.