تحقيقات وتقارير

ما يجري في سوريا مرتبط بصراع دولي حول موقعها الحيوي بمشروع خط الغاز العربي

لا يحتاج الباحث في ملفات المسؤولين الأميركيين إلى وقت أو جهد كبيرين ليدرك الأسباب الكامنة وراء الحروب الطويلة التي خاضتها واشنطن على امتداد العقدين الماضيين. وفي عودة سريعة إلى تصريحات من كانوا في سدة القرار إبان الحروب، يقع المتابع على عنصرين يتكرران في كل مرة، سراً وعلناً: النفط والغاز الطبيعي.

يعود الحديث هذه المرة في تقرير مطوّل نشرته مدونة «واشنطن بلوغ» المعروفة، مرفقاً بالوثائق والمستندات والخرائط، ربطاً بالأزمة السورية. وبعد استعادة تفصيلية لحروب سابقة ارتبطت بالنفط والغاز الطبيعي، وصل التقرير إلى سوريا ليؤكد أن ما يجري فيها مرتبط بصراع دولي مرتبط بدوره بموقع سوريا الحيوي بمشروع خط الغاز العربي وهو خط تصدير الغاز المصري لدول المشرق العربي ومنها إلى أوروبا. مع الأخذ هنا بالاعتبار أن الغاز الطبيعي بدأ يتحول شيئاً فشيئاً إلى بديل للطاقة مع تراجع احتياطي النفط العالمي.

وقبل الخوض في تفاصيل هذا التقرير، لا بدّ من الإشارة إلى أن مدونة «واشنطن بلوغ» تضم مجموعة من الباحثين المرموقين الذين يفضلون عدم الكشف عن أسمائهم، لأنهم «يؤمنون بأن إخفاء الهوية يلعب دوراً كبيراً في إيصال مضمون الخطاب الحقيقي». أما السبب فهو أن القارئ يحصل على المضمون فحسب من دون التأثر بالاسم، أما المصداقية فيؤمنها «اعتماد المدونة في جميع تقاريرها على الوثائق والمستندات المؤرشفة بالتاريخ ومكان النشر».

البداية من الحرب الأميركية على العراق التي كان سببها النفط. كلام آلان غريسبان وجون ماكين وجورج بوش وسارة بالين ومسؤولي مجلس الأمن القومي وغيرهم يثبت ذلك. ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، اعتبر حقول النفط العراقية أولوية في مجال الأمن القومي الأميركي حتى قبل أحداث 11 أيلول. وتؤكد «صنداي هيرالد» نقلاً عن مسؤولين أن واشنطن كانت تحشد قبل خمسة أشهر من 11 أيلول لاستخدام القوة ضدّ العراق بغاية تأمين حقول النفط.

حتى الحرب الأفغانية كان مخططاً لها قبل 11 أيلول، وتؤكد ذلك «بي بي سي» نقلاً عن مسؤول باكستاني رفيع المستوى كشف أن مسؤولين أميركيين أكدوا له في منتصف تموز العام 2001 أن الحملة على أفغانستان ستبدأ في منتصف تشرين الأول من العام ذاته. وهو واقع أثبتته قناة «أن بي سي» الأميركية نقلاً عن مسؤولين أميركيين أكدوا أن بوش كان يخطط للمصادقة على خطط مفصلة لخوض حرب عالمية ضدّ «القاعدة» قبل يومين من اعتداء 11 أيلول. ووفقاً لمسؤولي استخبارات فرنسيين، كانت أميركا تستعد للسيطرة على خط إمداد يمر عبر أفغانستان لنقل النفط من آسيا الوسطى بشكل أسهل وأقل تكلفة. ويلفت هؤلاء إلى أن الأميركيين قالوا لـ«طالبان» آنذاك «يمكنكم إما الحصول على بساط من الذهب أو من القنابل»، الخيار الأول إذا سمحوا للأميركيين بحرية التصرف مع خط الإمداد والثاني في حال العكس. وتثبت هذه الحقيقة وثائق نشرها كتاب، طبع في فرنسا العام 2002، يفضح خفايا المفاوضات السرية بين واشنطن و«طالبان».

وصل الأميركيون إلى ليبيا لأجل النفط أيضاً. ويقول عضو الكونغرس إد ماركي في حديث إلى قناة «أن بي سي» الأميركية «حسناً، نحن في ليبيا لأجل النفط. وأعتقد أن كلا من اليابان والتكنولوجيا النووية وليبيا وهذا الاعتماد لدينا على واردات النفط عوامل سلطت الضوء على حاجة الولايات المتحدة إلى اعتماد أجندة جديدة للطاقة». بدوره، وافق السيناتور ليندسي غراهام على أن وجود الأميركيين في ليبيا مهم حيث «هناك مال كثير لصناعة مستقبل ليبيا، كما هناك الكثير من النفط للإنتاج».

ولكن المعركة ليست متعلقة بالنفط فحسب، بل بالغاز الطبيعي كذلك.. وبالقدر ذاته. وكما قال «مهندس الحرب» جون بولتون العام الماضي عن المنطقة إنها «منطقة إنتاج النفط والغاز الطبيعي، المهمة والحساسة، التي حاربنا فيها لأجل حماية مصالحنا من التأثير السيئ للعدو الذي يجعلنا إما نخسر إمداد النفط والغاز الطبيعي أو نحصل عليه بأسعار باهظة التكلفة».

في الواقع، تتركز جميع العداوات الجيوسياسية في العالم على الجهة التي ستسيطر على «طريق الحرير الجديد». وقبل الدخول في خفايا هذه المنافسة، لا بدّ من معرفة خط سير هذا الطريق.

«طريق الحرير الجديد» المتمثل بأنابيب النفط والغاز ينزل من أفغانستان مروراً بباكستان وبحر العرب نحو شواطئ بيروت وقبرص واليونان مروراً بالخليج والعراق. وتحتدم المعركة بشأنه بين أميركا وحلفائها من جهة، وروسيا والصين وإيران من جهة أخرى.

وتناقش كل من إيران وباكستان إقامة خط إمداد للنفط من دون الهند التي باتت إلى صف أميركا، مع العلم أن روسيا تدعم هذا الطرح. وتتركز «اللعبة الكبرى» بين القوى العظمى المتلخصة أساساً بأميركا وروسيا المتصارعة على إدارة النفط والغاز الطبيعي في أوراسيا:

لطالما كانت روسيا وأميركا في حالة تنافس في المنطقة العربية، وكانت موسكو مصممة على إبقاء الأميركيين خارج الفناء الخلفي لروسيا في آسيا الوسطى. كما أن هناك حوالي ثلاثة أنابيب روسية ضخمة تمد النفط إلى أوروبا، فيما تخطط روسيا لإنشاء أنبوبين جديدين.

الصين دخلت بدورها في هذه «اللعبة الكبرى» لتكون في المرتبة الثالثة بين اللاعبين الكبار، حيث ستصبح قريباً أكبر مستهلك عالمي للطاقة، وهي تستورد النفط من تركمانستان عبر كازاخستان وأوزبكستان، وهو ما يعرف بخط إمداد آسيا الوسطى. وعندما أصبح هذا الخط فاعلاً وصفه الصحافي البارز بيبي إسكوبار بافتتاح خط حرير القرن الحادي والعشرين. يُذكر أن الصين تخطط لخط إمدادات رديف لخط «تابي»، الذي يضم تركمانستان وأفغانستان وباكستان والهند. ويشمل الخط الرديف تركمانستان وأفغانستان والصين.

إيران تشترك بدورها في هذه اللعبة: تمتلك إيران ثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم، ولديها أكثر من 93 مليار برميل من احتياطي النفط. وتعتبر إيران لاعبا ناشطاً في هذا المجال. ويعد خط النفط بين تركمانستان وإيران، الذي أنشئ في العام 1997، أول خط جديد لإمدادات النفط يخرج من آسيا الوسطى. إضافة إلى ذلك، وقعت إيران على اتفاق استثمار للنفط قيمته 120 مليار دولار مع الصين. كما تخطط لبيع الغاز إلى أوروبا عبر خط إمداد الغاز الفارسي الذي بات منافساً لخط «نابوكو» الأميركي.

في المقابل، يجد دعم الصين الواسع لإيران تفسيراً في حقلي الغاز والنفط. وقد ذكر إسكوبار في هذا السياق أن إيران «المعزولة» قد تحولت إلى مسألة أمن قومي عليا بالنسبة للصين، ما دفع الأخيرة إلى تجاهل العقوبات الأميركية على إيران، وربما تكون الصين المستفيد الأكبر من هذه العقوبات، لأن ذلك يتيح لها الحصول على النفط والغاز بأقل كلفة.

لماذا سوريا؟

ينصبّ التركيز على سوريا في هذه المرحلة لأنها جزء حيوي من مشروع خط الغاز العربي الممتد على 1200 كلم. يُذكر أن خط الغاز العربي هو خط لتصدير الغاز المصري لدول المشرق العربي ومنها إلى أوروبا. وتتضمن الخطة إنشاء خط من مدينة العريش في شمال سيناء إلى العقبة في جنوب الأردن والجزء الثاني من المشروع يصل بين العقبة والرحاب في الأردن، والتي تبعد 24 كلم عن الحدود السورية. أما الجزء الثالث للخط فطوله 324 كلم من الأردن إلى دير علي في سوريا، ومن هناك سيمتد ليصل إلى قرية رايان. وفي العام 2006 تم الاتفاق بين مصر وسوريا والأردن ولبنان وتركيا ورومانيا على توصيل خط الغاز إلى الحدود السورية – التركية ومن هناك سيتم وصله بخط غاز نابوكو ليوصل بالقارة الأوروبية. وكانت سلطات مصر والأردن ولبنان وسوريا قد اتفقت في العام 2004 مع العراق على توصيل خط الغاز العربي مع العراق لتصدير الغاز العراقي لأوروبا أيضاً.

ما سبق يوضح أن تغيير النظام السوري كان مخططاً له، كما الحال مع العراق وليبيا ولبنان والصومال والسودان وإيران، منذ 20 سنة مضت. وبالطبع إن الدور المركزي لسوريا في خط الغاز العربي يفسر لماذا أصبحت اليوم مستهدفة. وكما تمّ وضع «طالبان» على لائحة الاستهداف الأميركي بعدما طلبت الكثير مقابل خط إمداد «يونوكال»، هكذا يتم استهداف الأسد لأنه «لاعب غير جدير بالثقة». وما يعزز هذا الاستهداف هو أن تركيا وإسرائيل وأميركا يريدون تدفقاً آمناً للغاز الطبيعي عبر سوريا، ولا يريدون نظاماً سورياً لا يدين بالولاء لهم مهدداً بقطع الطريق على الإمدادات أو بطلب مقابل باهظ التكلفة.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن المحافظين الجدد ليسوا وحدهم من وضع هذه الاستراتيجية. مجلس الأمن القومي في عهد جيمي كارتر كان ساعد أيضاً في التخطيط للمعركة على موارد أوراسيا النفطية قبل عقد مضى، ومن الواضح أن أوباما يمضي قدماً في الأجندة ذاتها. أما النتيجة فواضحة تماماً: المعركة طويلة ما دامت الطاقة سيدها.

سيريان تلغراف | السفير

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock