ثرثرة محفوظ وحشيش مبارك وجراح المثقفين .. بقلم د.عصام عبدالله
“ان الثورات يدبّرها الدهاة وينفذها الشجعان ثم يكسبها الجبناء” نجيب محفوظ (ثرثرة فوق النيل)
لو طلب مني أن أرشح رواية واحدة من روايات نجيب محفوظ، الذي تمر ذكراه السادسة (1911 – 2006) هذه الأيام، لقلت في جملة واحدة: رواية ” ثرثرة فوق النيل “. رغم أن ذلك يظلم ” أديب نوبل ” كثيرا والقارئ أيضا، ويحرمه من متعه قراءة الروايات العظيمة الأخري مثل: أولاد حارتنا والحرافيش وميرامار وقلب الليل وقشتمر والشحاذ وغيرها.
معظم أعمال محفوظ تثير العديد من التساؤلات حول العلاقة بين الأدب والسياسة: هل الأدب مرآة لمجتمعه ووعي عصره وضميره، أم أنه رؤية استشرافية للمستقبل أيضا؟. هل يحتاج الإبداع لمسافة من الزمن حتي يكشف عن سائر مكنونانه، أم أن المجتمع بحاجة للتطور الكيفي حتي يستوعب كوامن الإبداع؟
أحد أسباب ترشيحي لرواية ” ثرثرة فوق النيل ” التي صدرت طبعتها الأولي سنة 1966، بعد نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام: أن (الغيبوبة) التي تعيشها مصر 2012 أشد عبثية وأقبح بمراحل من منتصف الستينيات حين كتبت هذه الرواية، أي عندما كانت علي مشارف الهزيمة النكراء في عام 1967… فأي هزيمة تنتظرها مصر الآن؟.. أسمع صوت محفوظ صارخا من خلف الأهرامات: ” يا أي شئ، أفعل شيئا، فقد طحننا اللاشئ”.
الهروب من الواقع ومشكلاته إلي عالم الهذيان (والمخدرات) في قلب عوامة فوق النيل، هو أحد التيمات الرئيسية للمصريين منذ أيام (بهاء الدين قراقوش) قبل ثمانية قرون وليس في عهد عبدالناصر فقط. وأذكر أنه في أكتوبر 2010 حين كنت عضوا في المجالس القومية المتخصصة التي تعرف ب(جراج المثقفين)، وتضم خبرات وكوادر في مختلف التخصصات معظمها علي المعاش، فاجأنا رئيس شعبة العلوم الاجتماعية في أول الاجتماع بأن القيادة السياسية (مبارك) تطلب تقريرا (عاجلا) عن: ” إمكانية إباحة تعاطي (الحشيش) وتقنين ذلك في المجتمع المصري”.
وسط ذهول الجميع وبعد سجال بيزنطي (وهرتلة) من الأعضاء ألتهمت ساعتين علي الأقل، علا صوت رئيس الشعبة وقال بحدة: مصر علي وشك كارثة اقتصادية ولا توجد حلول لمشاكلها المزمنة، والحشيش (تاريخيا) هو أحد وسائل ” التنفيس ” الاجتماعي ولا يجب أن (نتثاقف) وندفن رؤوسنا في الرمال، بل علينا أن نعترف بأن قليلا من ” الوهم ” يخفف كثيرا من الضغوط الاجتماعية والنفسية. ” الحشيش ” أقل ضررا من أنواع المخدرات والسموم الأخري، وأخطرها ” البانجو ” الشعبي الذي يزرع فوق أسطح المنازل، فضلا عن أن نسب تعاطي المخدرات في مصر وصلت لأرقام مرعبة، وما تنفقه الدولة من أموال سواء في تأمين الحدود أومنع تهريب المخدرات إلي الداخل، أو في علاج الإدمان والمدمنين غير كاف وغير ناجع علي الاطلاق ولا يعود بأية نتائج مثمرة أو مشجعة، والحل هو (تقنين الحشيش وإباحه بيعه وتعاطيه بقدر ونسب معقولة وفي أماكن معروفة تحت إشراف الدولة) مثلما هو الحال في ” هولندا ” وغيرها من الدول الغربية.
نجيب محفوظ في كثير من أعماله الإبداعية كان أسبق من معظم المحللين والكتاب السياسيين في مصر، حيث لم يكن أحد يجرؤ علي الحديث في السياسة بشكل صريح أو مباشر في الستينيات، ولكن في هذه الرواية تحديدا استحضر محفوظ حيلة جديدة قديمة عند المصريين، أفرغ بها ما في جعبته من انتقادات واحباطات وهموم، حيث تجد أبطاله يتعاطون الحشيش يوميا في العوامة حيث لا مجال للإرادة أو العقل، وينفثون الصراحة و” النقمة ” وبجرأة متناهية مع دخان الجوزة في سماء القاهرة ووسط نيلها الهادئ.
المخدرات تجعل الوعي يخبو واللاوعي يطفو، وفي هذه الحالة يكون الانسان غير مسئول عن أفعاله، ناهيك عن أقواله، وبتغيب العقل الواعي المسئول عن الرقيب الداخلي الذي زرعه عسكر يوليو 1952 في نفوس وعقول الجميع، يفلت اللاوعي بلا أي رقيب أو حسيب. والشخصية الأشهر في هذه الرواية هو الموظف ” أنيس زكي “: وهو ” كائن ” نصف مجنون.. ونصف ميت، يهرب من الماضي ومن مطاردة أشباحه، ومن ضميره المعذب والمغيب الغارق في الإدمان، ” أنيس ” – مثل معظم المصريين الآن – لا يخشي في حياته – التي نسي تفاصيلها – إلا (تذكرها) مرة أخري.
مبارك في أيامه الأخيرة أراد ” تدجين ” المصريين عن طريق تقنين ” الحشيش ” أو بيع الوهم للمصريين حتي يجلب لهم الرضا الزائف عن النفس وأسلوبه في الحكم، لأنه كان يعلم علم اليقين بأن ” الورم أكبر من الجسم ” وأن استئصال الجسم أسهل بكثير من إزالة هذا الورم الخبيث بعد ثلاثين عاما من سياساته المسرطنة. ولكل من يندهش من أن الإخوان المسلمين الذين كانوا في خانة المعارضة قبل 2011، هم أنفسهم الذين يسيرون علي خطي مبارك الآن ويحذون حذو النعل بالنعل لنظامه، أو لكل من يقول علي الرئيس محمد مرسي أنه: الرئيس (مبارك بلحية)، فقط أذكركم بمقولة النبي ” كارل ماركس “: ” الدين هو تنهيدة المخلوق المظلوم، قلب عالم بلا قلب، روح عالم بلا روح. إنه أفيون الشعوب “، وهو بالتأكيد أقوي أنواع المخدرات وأنسبها للحكم الآن.
بقلم : د . عصام عبد الله
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)