مقالات وآراء

“الربيع العربي” في سياق العولمة .. أو إعادة إطلاق المفاهيم .. بقلم اوليغ اوزيروف

يستعرض الدبلوماسي الروسي اوليغ اوزيروف  في مقالته العوامل المؤثرة في  انطلاق ثورات “الربيع العربي” وأهمية التمسك بمبادئ اتفاقية ويستفاليا حول  احترام سيادة الدول ودور مؤسسات الاقتصاديات النامية في التصدي الى محاولات  الغرب لتجاوز الشرعية الدولية لدى معالجة الازمات الاقليمية:

توجد في الجيوش كافة مهنة “المتنصت”.  ومهمته التحذير من إقتراب جيش العدو فيضع إذنه على الارض محاولا سماع وقع حوافر الخيل ، وفيما بعد في الفترات اللاحقة  يلتقط ضجيج الطائرات او ازدياد حركة موجات الاتصال اللاسلكي. ويبدو في يومنا هذا وفي عالمنا المتغير بسرعة انه ينقصنا مثل هؤلاء المتنصتين. بينما توجد وفرة من المتنبئين والعرافين وكاشفات البخت والمحللين الماليين الذين لا يختلفون كثيرا عن اصحاب القدرات الايحائية الخارقة(الاكستراسينس) والمنجمين وبضمن ذلك في مجال دقة التنبؤات.

علما بأنه يوجد ما يجب التنصت عليه. فخلال عدى أعوام اصبح ديدننا الاصابة بالرعشة من الهزات التكتونية المختلفة المنابت ، التي تهدد في التحول في القريب العاجل الى تحرك حضاري وايقولوجي كبير ، يمكن ان يغدو كارثة بالنسبة الى القسم الاكبر من البشرية ان لم تكن البشرية كلها.

ان هذه الهزات قد  تختلف من حيث الشكل : فقد تكون مثل 11 سبتمبر/ايلول 2001 وما أعقبها من موجات الارهاب الزلزالية والحروب ” ضد الارهاب” ، وقد تكون بهيئة كارثة فوكوشيما ، التي جعلت موضع شك مستقبل الطاقة للبشرية ، او الجفاف الشديد في العالم في عام 2010 ، الذي بعث الى الوجود شبح الجوع الشامل في الارض ، او قد يكون بهيئة انهيار الاسواق المالية في عام 2008 تحت ضغط ” التغطية” الهائلة من الاوراق النقدية الفارغة  ومختلف اصناف” المشتقات” الأخرى.  وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه  امام التشكيلة الوزارية الجديدة  لبلادنا  أنه توجد في العالم عوامل غموض كثيرة جدا. وكان قد طرح هذه الفكرة نفسها في آخر خطاب له في مجلس الدوما في دورته التشريعية الخامسة في 23 نوفمبر /تشرين الثاني عام 2011 .  بعبار آخرى ان عوامل الغموض لم تصبح أقل في غضون نصف عام.  ويبدو أنها اصبحت أكثر وكذلك إزدادت الإضطرابات عموما.

ولا بد من الاعتراف بأن جميع هذه الاحداث التي جرت في 15 – 20 عاما الأخيرة ، ومنها التغيرات العاصفة لعامي 2011 – 2012 في العالم العربي ، تمثل ما يشبه ” العلامات” التي كشفت ظاهرة جديدة نوعيا هي : اصبحت في مفترق الطرق ، والانعطاف ، ليست المنظومة الاقتصادية العالمية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية فحسب ، والتي تتطلب كما يبدو بجلاء إعارة إهتمام شديد ودائب لها، بل والنظام العالمي بأسره ،  القائم على اساس نظام ويستفاليا بشأن اولوية سيادة  الدولة ،  والاحكام والمبادئ المثبتة في ميثاق هيئة الامم المتحدة ، التي دفعت ثمنا لها دماء ما يربو على 62 مليون شخص ، أكثر من نصفهم من أبناء بلادنا.

ان متسلسل الكوارث الطبيعية والصناعية والايقولوجية والافعال الإرهابية ، والأزمات المالية والاقتصادية ، يصبح شيئا مألوفا ،  مما يحول دون  ادراك نطاق الكارثة الشاملة بأكمل شكل ، وأختيار الاتجاه الرئيسي الذي يجب ان تبذل فيه جهود البشرية. وقد حان الوقت لمواجهة الحقيقة. ولم يتبق الوقت عمليا من أجل البحث عن أجوبة عن جميع هذه التحديات الكثيرة.

ويتولد لدى بعض المراقبين والمحللين الانطباع بأن البشرية تمضي نحو الاختبارات الكونية الجديدة بدون الاستعداد الجيد لها بصورة كافية وامتلاك الادوات اللازمة لذلك من وجهة نظر التعامل الدولي.

وقد يقول البعض ان هناك هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة العديدة. وخلال 67 عاما من لحظة تأسيسها  أثبتت هذه المنظمة أنها أداة لا يستغنى عنها  للحفاظ على السلام والأمن في العالم ، وتهيئة الظروف من أجل تطور البشرية بدأب.

وكما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الخطاب الذي ألقاه في الدورة 66 للجمعية العامة لهيئة الامم المتحدة فأن ” هيئة الامم المتحدة تبقى بصفتها هيكل إسناد للعلاقات الدولية والتعاون المتكافئ المتعدد الأطراف لصالح جميع الدول. وتمتلك هيئة الامم المتحدة شرعية لا مثيل لها ، والصلاحيات اللازمة  للرد كما ينبغي على جميع انواع المخاطر والتهديدات الراهنة. ويجب ان تواصل هيئة الامم المتحدة بالذات ممارسة الزعامة  السياسية والقانونية والمعنوية في النضال ضد التحديات الشاملة ، وتثبيت المبادئ العادلة ومعايير التعاون ومراقبة تنفيذها وتقديم المساعدة الضرورية والدعم الى الدول المحتاجة لذلك”.

ان هذه المنظمة ، تمثل كما يبدو الهيئة الدولية الأساسية وموحد الجهود الجماعية ونموذج    “الحكومة العالمية ” الذائعة الصيت التي حال دون تشكيلها  الانقسام في العالم وفق المبدأ الايديولوجي. وها قد مضت فترة 20 عاما على انقسام العالم على هذا الأساس، بينما لم تنشأ المنظومة الجديدة لأدارة العالم بصورة متكاملة ، والتي تتجاوب مع متطلبات الزمن. وبدلا من الخلافات الايديولوجية انبثقت أخرى منها الجيوسياسية ، وتبدو متباينة الخطوط المتعلقة ب ” نموذج المستقبل ” التي تكون مختلفة وأحيانا متناقضة كليا لدى شتى الدول التي تحدد مسيرة التطور العالمي. بينما تواصل تراكمها التحديات والأخطار في العالم ، وتقترب من النقطة الحرجة ، حيث تسبق التغيرات المؤسساتية لمجمل صرح العلاقات الدولية.

يؤكد  كثير من الخبراء ان مؤسسات هيئة الامم المتحدة  تحتاج الى تحسين شامل وأكسابها  سرعة العمل والمرونة  اللازمتين ليس في إتخاذ القرارات فقط ، بل وفي توفر ادواتها. ويجب ان يتم الاصلاح الاشمل لهيئة الامم المتحدة نفسها ـ وقد أشير الى ذلك بجلاء في مفاهيم السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية الصادرة في عام 2008 .

أما الهيئات الدولية الأخرى التي  يتم تشكيلها كما يبدو لمساعدتها  مثل ” مجموعة الثماني” و” مجموعة العشرين” فهي ساحات هامة للحوار من أجل اعداد المواقف المتفق عليها بين الدول العالمية الكبرى بصدد القضايا السياسية (“مجموعة الثماني”) والاقتصادية المتعلقة بإستكمال التحكم بالاقتصاد العالمي( ” مجموعة العشرين”).

من جانب آخر اعتقد أنها لا تندمج عضويا بصورة كافية  مع المؤسسات الموجودة ، ولا يتحدد بوضوح كاف دائما مكانها في الصرح العام للعلاقات الدولية ، والالتزام بالقرارات الصادرة عنها نفسها وعن بقية أعضاء المجتمع الدولي. انها توجد كما لو انها متوازية مع مؤسسات هيئة الامم المتحدة ومواقفها ، وطاقتها الحيوية ، التي لا تكفي أصلا اليوم.

وربما يكون دور ساحات الحوار هذه ، كما أظهرت القرارات الاخيرة ل” مجموعة الثماني” حول سورية ، والقرارات الصادرة عن قمة كامب- ديفيد في ايار/مايو عام 2012ما أما  ،دورا نافعا جدا  لتكوين علاقات بين الدول متكافئة أكثر وقائمة على اساس أولوية القانون الدولي، وليس فرض قرارات على البلدان والشعوب غير مقبولة من جانبها.

أما الهيئات الأخرى الناشئة والواعدة كثيرا مثل (بريكس) او منظمة شنغهاي للتعاون فهي في طور التكوين ، ولو ان انشاء مؤسسات (بريكس) يتم بوتائر سريعة ، كما تشير الى ذلك مارينا لاريونوفا مديرة معهد المنظومات الدولية والتعاون الدولي في جامعة البحوث الوطنية ” مدرسة الاقتصاد العليا” بروسيا. حقا انها تكتب أيضا أدناه ان (بريكس) افتقرت حتى الوقت الحاضر” كليا الى وظائف تنفيذ القرارات وتطوير الادارة العالمية”.

ويمكن ان نجادل بصدد القول الاخير إذا ما اطلعنا بإمعنا على مواد القمة الاخيرة لمنظمة (بريكس) المنعقدة في نيودلهي في آذار/مارس عام 2012 ، وبموجبه صدر قرار بتأسيس بنك التنمية لبربيكس. وأكد مانوهان سينغ رئيس وزراء الهند الذي استضاف القمة ” إن الاتفاقية التي وقعتها اليوم بشأن التنمية في بلدان بريكس ستحفز التجارة بينها ، وتوفر الفرصة لتقديم القروض بعملاتنا النقدية الوطنية”. وثمة أمر مبدئي هو ان هذا يوفر الآفاق لاجراء الحسابات المتبادلة بالعملات النقدية الوطنية للبلدان الأطراف في الاتفاقية حول بنك التنمية الموحد. كما وقع إتفاقية بهذا الشأن في نيودلهي ممثلو البنوك الاحتياطية لبلدان (بريكس). بيد ان هذه تعتبر الخطوات الاولى لإئتلاف بلدان (بريكس).

ولا تتجاوب كليا مع تحديات الزمن المنظمتان الماليتان الدوليتان – البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ، اللتان ولدتا في بريتون-وود.  وكما أظهرت أزمة عام 2008 فأنهما لا تتعاملان بنجاح دائما مع مهامهما. ونضجت فيهما ضرورة الاصلاح وإعادة توزيع الاصوات لصالح بلدان الاقتصاد النامي ، وتكوين موازين جديدة تراعي نمو الاقتصادات الجديدة وتقوض القديمة.

قامت بلدان (بريكس) منذ فترة وجيزة بزيادة حصتها في البنك العالمي من 44 الى 47 بالمائة.  كما ازدادت حصة (بريكس) في صندوق النقد الدولي من5ر39 الى 25ر42 بالمائة.  ويبدو ان من الواجب مواصلة العمل في مجال اشراك هاتين المنظمتين أخذا بنظر الاعتبار الواقعيات السياسية والاقتصادية الجديدة. وتعمل بشكل مناسب بهذا القدر او ذاك الآليات الأخرى التي يعترف المجتمع الدولي كله بضرورتها ، ومنها مثلا منظمة التجارة العالمية.

وتبدو جلية للعيان أزمة كثير من المؤسسات الاقليمية الكبيرة.  ويتحدث الجميع عن أزمة اليورو – “العصب الرئيسي” للتكامل الاوروبي الذي بدونه  يعود  الاتحاد الاوروبي الى أزمان منطقة التجارة الحرة ، اذا لم يكن الى أيام اتحاد ” الفحم والصلب”. ويتحدث القوميون والراديكاليون في الغرب الذين يدينون بشدة  ازدياد عدد المسلمين في اوروبا عن انه ستحل محل الاتحاد الاوروبي مؤسسة ” أورابيا”. اما حلف الناتو فهو تكتل يرجع الى ازمان الحرب الباردة فهو قد عفا عليه الزمن بشكله الحالي وعمد خلال فترة طويلة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي الى البحث عن مغزى وجوده ، ووجوده بصورة أساسية في التوسع نحو الشرق ويروج الدعاية لنفسه بأنه ” مورد الأمن “.  كما انشغل الناتو الذي لم يتجاوز نهائيا مرحلة االوعي وقوالب التفكير  كحلف،في القيام بأعمال أخرى، فصار يرسم ” كعادته” الخطوط الفاصلة  ، وبالاضافة الى ذلك إنهمك في البحث عن أعداء خارج مجال منطقة مسؤؤوليته الجغرافية وانشاء الدرع الصاروخية الاوروبية كمنظومة لحماية نفسه من أخطار افتراضية لا وجود لها ، الأمر الذي ولد توترا جديدا في محور الشرق – الغرب.

إن الوضع في هذا المضمار يقترب من مسرح اللامعقول. ولدى تحليل أزمة الحلف عشية القمة الاخيرة للناتو في شيكاغو كتبت الصحفية المعروفة ن . غيبر لدى الحديث عن منظومة الدفاع المضاد للصواريخ في مقالتها المنشورة في جريدة ” موند ” الباريسية الموقرة بتأريخ 14 أيار/مايو 2012 :” لم يتفق الحلفاء بشأن الرقعة الجغرافية للأخطار .. وكذلك بشأن قواعد عمل المنظومة في حالة وقوع أزمة ، ولا التمويل الذي يقدر بمليارات الويرو”. علما ان منظومة الدفاع المضاد للصواريخ هي جزء من مشاكل الحلف الكثيرة.

وهذا لا يلغي واقع انه تبدو جلية للعيان أمثلة  التعاون البناء بين روسيا والناتو ، ومنها مشكلة دولية حادة هي مشكلة افغانستان. لكن يعكر هذه الامثلة وقوع احداث دراماتيكية مصطنعة مثل مغامرة بلدان الناتو في ليبيا ، حيث قررت هذه البلدان ” تصحيح” سير التطور الداخلي للمجتمع الليبي ، دون ان تتوفر لديها اية صلاحيات بهذا الشأن من قبل مجلس الأمن الدولي.

لكن توجد أمثلة أخرى منها جامعة الدول العربية. إنها مثل السفينة التي تبحر في العاصفة فقد أصابها البلى والشقوق بسبب رياح الثورات العربية. وزعيمة العالم العربية التقليدية – مصر – غارقة في أعماق مشاكلها الداخلية ، وهو شئ طبيعي بعد الاحداث الثورية التي اجتاحتها  في عام 2011. بينما تولت مواقع القيادة المملكة العربية السعودية وقطر ، لكنهما لم تفلحا حتى الآن في توحيد بقية اعضاء الجامعة حولهما بصورة تامة. وعندما أصدرت الجامعة في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2011 القرارات البناءة حول سورية ، بموجب بيان مجلس الأمن الدولي الصادر في 3 آب/أغسطس الذي جاء فيه ” ان الوسيلة الوحيدة  لتسوية الأزمة الراهنة في سورية هي العملية السياسية الداخلية من قبل السوريين أنفسهم “، مضت أبعد من ذلك في هذه الصيغة في كانون الثاني/يناير عام 2012 . فطرحت على سورية صيغتها للتسوية ( وهي ان يسلم الرئيس بشار الأسد صلاحياته الى فاروق الشرع نائب الرئيس) ، التي لم تناقش من قبل مع السوريين أنفسهم ، كما جاء في بيان مجلس الامن الدولي ،- علما ان سورية  وهي احد مؤسسي جامعة الدولة العربية قد جمدت عضويتها فيها حاليا – ومن الطبيعي  ألا يساعد ذلك على قبول السلطات السورية لإقتراحات هذه المنظمة الاقليمية.

لكن الجامعة استطاعت مع هذا في آذار /مارس عام 2012  من خلال الحوار مع روسيا ان تجد بالتوافق بين الاعضاء القوة لإعداد ” البنود الخمسة” ( أعلن سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا في 10 آذار/ارس عام 2012 :” إننا اتفقنا على موقف مشترك مؤلف من خمسة بنود. أولا- ايقاف اطلاق النار مهما كان مصدره. ثانيا – استحداث آلية رقابة محايدة ومستقلة ، وثالثا- عدم حدوث أي تدخل خارجي ، ورابعا – ايصال المساعدات الانسانية الى جميع السوريين بلا عقبات ، وخامسا وأخيرا- تقديم الدعم الحازم الى بعثة كوفي عنان بهدف بدء الحوار السياسي بين الحكومة وجميع اطراف المعارضة”.وحددت هذه البنود  المخرج من المأزق السوري.لكن أحداث أيار/مايو (2012) في قرية الحولة السورية حيث قتل مجهولون حوالي 100 شخص اصبحت امتحانا عصيبا بالنسبة الى جامعة الدول العربية وكذلك المجتمع الدولي بأسره. واصبحت موضع شك “البنود الخمسة” وخطة عنان ، ولاسيما البند حول عدم السماح بالتدخل الخارجي. وسيظهر الزمن فيما اذا تستطيع جامعة الدول العربية الخروج من هذه الاحداث بشرف.

أما منظمة التعاون الاسلامي (قبل عام 2011 كانت تسمى بمنظمة المؤتمر الاسلامي) التي يمكن ان تصبح بديلا قويا للجامعة فهي في طور النمو. بالمناسبة انها لم تقم مثل جامعة الدول العربية  بأية تحركات قوية لتسوية الأزمة السورية ، وأبقت على الاتصالات والحوار مع السلطات السورية ، ولم تتجاوز في قراراتها حدود الخط الذي حدده مجلس الأمن الدولي. ولم تتحقق بعد طموحاتها في ان تصبح المنظمة الدولية الثانية بعد هيئة الامم المتحدة بالرغم من انها تضم 57 دولة في العالم يسود فيها الاسلام(أي 25 بالمائة من دول العالم). لقد بدأت منظمة التعاون الاسلامي فعلا في الاعوام الاخيرة الحديث بصوت عال ولحد كبير بفضل شخص امينها العام أكمل الدين احسان أوغلو – السياسي والدبلوماسي المرهف الذي استطاع بمهارة التوازن بين مختلف مراكز القوة.  وتمت المصادقة بمشاركته شخصيا في عام 2005 على خطة عمل المنظمة لفترة عشر سنوات وفي عام 2008 على النظام الداخلي الجديد  للمنظمة. ولكن حالت  ضرورة التوازن بين الدول المختلفة ( المملكة العربية السعودية ، ايران ، اندونيسيا ، ماليزيا ، باكستان ، تركيا) دون ان يتضح حتى النهاية إتجاه نشاط منظمة التعاون الاسلامي ، وفيما اذا كانت توحد كالسابق بين بلدان مختلفة عن بعضها البعض كليا ، وتقع في مختلف اصقاع المعمورة، على اساس ديني أم ستعد فلسفتها الخاصة وتتحول الى هيئة سياسية واقتصادية متكاملة وقوية. إن الامكانيات متوفرة لديها لذلك لكن ينبغي عمل الكثير  جدا ، ولاسيما مع البلدان التي تتمتع بوضع مراقبين ، مثل روسيا التي قلصت لحد كبير صلاحياتها في دورة مجلس وزراء خارجية المنظمة  في استانة في حزيران/يونيو عام 2011 ، مما جعل موضع شك إمكانية عمل هذه الدول بصورة فعالة مع منظمة التعاون الاسلامي.

وبعد المأساة الليبية في عام 2011 حين  تعرضت الجماهيرية الليبية آنذاك الى عدوان الناتو غير المبرر بذريعة زائفة هي تكوين ” مناطق حظر التحليقات ” لحماية السكان المدنيين ، انبثقت أسئلة كثير بصدد مستقبل الاتحاد الأفريقي الذي كانت ليبيا من اللاعبين البارزين والنشطين فيه. حقا يبدو جليا للعيان ان هذه المنظمة الاقليمية ذات قدرات كبيرة.

ويشتد ساعد المنظمات  العسكرية والسياسية والاقتصادية الاقليمية الأخرى وتغدو ذوات قدرات أكبر في أصقاع المجال الاوراسي ومنطقة آسيا – المحيط الهادي والشرق الاوسط وامريكا اللاتينية مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي والمجموعة الاقتصادية الاوراسية وآسيان ومنظمة شنغهاي للتعاون والسوق المشتركة لبلدان امريكا الجنوبية ومجموعة الاند ومجلس التعاون الخليجي وغيرها.

ولابد من الإشارة الى ان المنظمات والاتحادات التي تزداد قوة وتنمو بسرعة مثل بريكس او منظمة شنغهاي للتعاون لا تعتبر جزءا من منظومة القيم كما في الناتو ، وتعتنق فسلفة سياسية مغايرة تماما ، زد على ذلك انها تتشكل لمعالجة مهام مغايرة تماما ، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا.

موجز القول يمكن التأكيد على ان التناقض الرئيسي على الصعيد الدولي يكمن اليوم في الخلاف بين المؤسسات الدولية التي تشكلت سابقا تحت مفاهيم العالم الوحيد القطب ، والمؤسسات الأخرى التي تتأسس في ظروف العالم المتعدد الاقطاب النامي والمتطور بسرعة عاصفة والتي تتطلب التعاون المتكافئ ، ولا تقبل بالأوامر الصادرة “من جهات عليا” وبأعتقادي ان هذه الخلافات لا تتسم بطابع عدائي ويمكن معالجتها – بخلاف المراحل السابقة لتطور العالم – بالوسائل السياسية والدبلوماسية حصرا. ونحن نرى منذ الآن  ان عملية تغيير هذه المؤسسات الدولية التي تضع منذ الآن اهداف ومهام العالم المتعدد الاقطاب جارية على قدم وساق.

وفي ختام هذا الاستعراض الموجز السريع وغير الكامل نخلص الى الاستنتاج التالي: ان منظومة العلاقات الدولية تمر في فترة الهزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والايقولوجية ليس في أفضل أشكالها البتة. وفي واقع الأمر انها توجد في مرحلة انتقالية حين انهار العالم  القديم (ذي القطبين) ، أما الجديد فما زال فقط في مرحلة النشوء المديدة التي تتواصل على مدى 20 عاما ولا ترى نهاية لها بعد. والسؤال المطروح هو متى ستنتهي وكيف ؟ هل بحدوث انفجار جديد وخطر للغاية من التناقضات؟

من وجهة النظر هذه ومما سميناه الثورات العربية او بتعبير أكثر تزويقا ” الربيع العربي”، الذي يظهر فيه بجلاء التلميح الى ” ربيع براغ”، لا يعتبر ذلك حادثا مفصليا ما او سلسلة من  الاحداث التي فصلت مجازا بين ” العهد السوفيتي ” أو عصر ما بعد الحرب الباردة ، عن مرحلة جديدة تماما في العلاقات الدولية.

ماهي السمات المميزة التي يمكن إبرازها في منظومة العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية الناشئة قبل ” الربيع العربي” خلال 20 عاما الأخيرة؟

لنبدأ من ايراد ما كتبه المستشرق الروسي المعروف ليونيد فيتوني في مجموعة المقالات     “الحركات الاحتجاجية في الاقطار العربية”  الصادرة في عام 2011 عن معهد افريقيا التابع لإكاديمية العلوم الروسية :”ان الخطأ الفاحش للنخب الحاكمة في مصر وتونس كان يكمن بالذات في أنها قد  اندمجت فعليا في مؤسسات المجتمع الدولي والسوق العالمية واصبحت من مالكي الشركات الدولية ، وتجاهلت واقع ان تنامي الهوة في مستويات الاستهلاك والحصول على الخيرات الاجتماعية ومنجزات الحضارة فحسب لا تقبله شرائح المجتمع الأخرى.  فهذا الأمر بالذات يعتبر أيضا جزءا من الاتجاهات اللبرالية والديمقراطية في العالم. علما انها ولدت قبل كل شئ بنتيجة السياسة التحديثية للسلطات نفسها”.

بعبارة أخرى لقد تكشفت في ” الربيع العربي”  وظهرت على السطح جميع  مشاكل وقروح  نموذج العولمة الذي طرح في مطلع التسعينيات . ودعنا نسميها العولمة1.0  .

ودعنا نستعيد في الأذهان ان الاتجاه نحو إقامة عالم موحد ومتعدد الأقطاب بدأ يشتد عقب تفكك الاتحاد السوفيتي اي في النصف الاول من عقد التسعينيات. وبدا ظاهريا شيئا معقولا تماما: ان الدولة الامريكية الأقوى عسكريا وسياسيا واقتصديا والمتطورة تكنولوجيا تقدم الى العالم مشروع ” المجتمع المفتوح ” والديمقراطية التعددية وتنقل الافراد والمعلومات والسلع ورؤوس الاموال بحرية . ان التكنولوجيات الحديثة ولا سيما في مجال الاتصالات تتسلل عبر الحدود وتقلص حرية تبادل المعلومات في العالم وتجعله منثل “قرية” واحدة.  وتزول الحدود السابقة بين الدول ليس بأوامر ” من فوق” بل من ” الأسفل” ، في الجماهير الشعبية نفسها ، حيث تجري بنشاط عملية اعادة تحديد الهويات – نشوء أخرى جديدة  غالبا ما تكون ذات صبغة دينية أو طائفية ، وذوبان القديمة مثل الهوية الوطنية السوفيتية.

ان السيادة الوطنية في إطار هذا النوذج  يجب ان تكف عن ممارسة الدور الرئيسي مخلية المكان في الاولويات الى حقوق الانسان ، أما صلاحيات الهيئات الوطنية فيجب ان تسلم بشكل مخطط الى الهيئات فوق الوطنية. ويغدو الاتحاد الاوروبي بمؤسساته المتطورة بمثابة المختبر لهذا النموذج.

ويجب ان يحل مفهوم ” التدخل الانساني” تحت شعار حماية حقوق الانسان محل النظام المحدد بموجب صلح ويستفاليا الذي يعطي الاولية الى سيادة الدولة. ولفت الباحث السياسي الروسي إ. ايليشيف الانتباه الى ما قاله رولان دوما وزير الخارجية الفرنسي الأسبق منذ عام 1991 بصدد كردستان العراق :”رغم ان من الواجب الاسترشاد بالالتزامات المنبثقة عن المعاهدات الدولية ، فأن الضرورة القصوى قد تتطلب أحيانا انتهاك احكام القانون الدولي”.

زد على ذلك ان الغرب التأريخي حاول مرارا خلال 20 عاما الاخيرة ممارسة ” التدخل الانساني” غير المثبت في القانون الدولي بصفته أمرا واقعا ، وفرض وما زال يفرض عقوبات وحيدة الجانب على عدد من الدول بذريعة حماية حقوق الانسان بأعتبارها معيارا جديدا.

لكن سرعان ما أتضح – وفقا للمعايير التأريخية – ان العالم وحتى اوروبا متنوعة جدا من الناحيتين السياسية والحضارية من أجل  تكوين نموذج موحد (كما تبين قبل هذا بالنسبة الى العالم ضمن أطر المشروع الشيوعي).  وعلى سبيل المثال يطرح الكثيرون السؤال: ما الذي يجمع بين البرتغال وفنلندا ، واين تكمن “هويتهما الاوروبية الموحدة “؟ يلقى  مقاومة شديدة في مختلف المجتمعات ، لحد ممارسة الارهاب، المشروع العالمي  لصنع ” انسان المستقبل” المغلف بورق زاهي الالوان، والمدعم  بالسلع الاستهلاكية ، وبمنظومة الاقراض الطويل الامد ، وبهوليوود ، و “الانسان العالمي” الذي يستهلك الخيرات المتزايدة للحضارة التكنوصناعية وقبعة البيسبول والجينز ، والأي-بود بسماعة في الاذن وعلبة الكوكا-كولا في اليد .

ولا تبدي جميع المجتمعات الاستعداد “لابتلاع” مفاهيم الانسان المعاصر الذي يجب ان يكون كمثل أعلى ليس أكثر من “مستهلك ناجح” للغاجيتات والديفايزات الجديدة التي تقدمها المراكز التكنولوجية الحديثة . بالمناسبة ان هذه المقاومة لفرض المعايير الثقافية والاخلاقية الغربية ذات السمات الوثنية وعبادة الاصنام ( ديفيد بيكهام وليدي جاجا ومايكل جاكسون وغيرهم من فناني البوب ونجوم الخلاعة)، قد اصبحت كما يبدو أحد اسباب تنامي شعبية الاسلام السياسي المتشدد الذي يعارض ” الديمقراطية العارية ” ، في بلدان الشرق الاوسط في فترة   “الربيع العربي”.

وعمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها ردا على هذه المقاومة ( علنا و سرا) الى شن سلسلة من الحروب- في صربيا والعراق وافغانستان وليبيا- وكلها شنت بإسم انتصار المثل العليا للعدالة والخير والديمقراطية وحقوق الانسان وغيرها  من القيم التجريدية لكنها ذات المظهر الجذاب. ولكن لا ترى نهاية لهذه الحروب “الانسانية” ، وتزداد تلال الجثث (كان آخرها مقتل 50 ألف شخص في مدينة سرت الليبية). وتلقى محاولات روسيا في مجلس الأمن الدولي للحصول على جواب حول من المسؤول عن هذا كله بجدار من الصمت.وفي افضل الاحوال يكون الجواب شبيها بأقوال هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية في تعليقها على النزاع بين اسرائيل و”حزب الله” في لبنان في عام 2006حين وصفت هذه الحرب المحلية التي رافقها القصف الجوي للمدن اللبنانية المسالمة  بأنها ” الآم مخاض ولادة الشرق الاوسط الجديد”.

وقد أورد فلاديمير بوتين بصورة وافية هذه المشكلة في مقالته بمناسبة الحملة الانتخابية وعنوانها ” روسيا والعالم المتغير” المنشورة في 27 شباط/فبراير عام 2012 بقوله:” ان ما يجري في العالم العربي ذو عبرة بالغة. وتظهر الاحداث ان السعي الى غرس الديمقراطية باستخدام وسائل القوة يمكن وغالبا ما يقود الى نتيجة معاكسة تماما.  وتخرج من الاعماق القوى ، وبضمنها قوى المتطرفين الدينيين ، التي تحاول تغيير نفس إتجاه تطور البلدان ، والطابع العلماني لإدارتها”.

ويتحول ” انتصار الديمقراطية ” هذا في كل مرة الى مضايقة الاقليات كما في كوسوفو ، والى عدم الاستقرار الدائم ، كما في العراق ، والحرب الطويلة الأمد كما في افغانستان ، وانهيار دول بأكملها داخليا كما في ليبيا. لكن اصحاب هذا المشروع ( يستند ما يجري لحد كبير على ايديولوجية المحافظين الجدد) ومنفذيه (الولايات المتحدة وبلدان الناتو التي تقودها) يبررون ذلك بقولهم ان هذا كله ليس سوى أخطاء. وينبغي الضغط أكثر قليلا على سورية وايران وسيتحقق النصر. لكن ألا يخدع انفسهم انصار النموذج الليبرالي الجديد؟ ألا يبدون شبيهين بالبلاشفة “ذوي العقلية المتحجرة” الذين كانوا يؤكدون ان سقوط الضحايا أمر لا مناص منه ؟

وعموما فإن مفاهيم حقوق الانسان والديمقراطية الانتخابية التعددية تلقى صدى في أفئدة  الملايين ، كما استجاب الناس في حينه الى شعارات القوميين والشيوعيين العرب ضد الامبريالية والاستعمار. وقد تحمس الشباب لثقافة الانترنت وامنية التنقل بحرية في أرجاء العالم وحرية الاعلام كما كان يحلم الناس في جميع الازمان  بالحياة الخالية من املاء الارادة على الغير والفساد والحواجز الطبقية والاجتماعية التي تعيق التطور.

لكن لا يريد أحد في الاقطار العربية وغير العربية ان تفرض بقوة السلاح الديمقراطية او  شكلها الخاص الذي يقدمه المحافظون الجدد. ويجب ان تأتي البلدان نفسها الى ذلك الشكل من الديمقراطية الذي يعتبرونه مبررا ومقبولا من الناحية التأريخية. وتعلمنا ذلك خبرة التأريخ العالمي كله.  ولا توجد أية نهاية للتأريخ التي أعلنها فرانسيس فوكوياما ، بل هناك عملية مستمرة لتغيير وأعادة هيكلة وتعقيد المجتمعات الساعية  الى التطور الذاتي وفقا ل”رمزها الوراثي”.وفي اطار هذا المفهوم تكون جميع المسلمات الايديولوجية ، مهما كانت جميلة، ذات طابع مؤقت وعابر.

كما أفسد الصورة العامة الجميلة “لزحف الديمقراطية الدائب” حدوث خلل خطير في النموذج الاقتصادي الليبرالي الجديد الذي عرضه الغرب في “قاروة واحدة” مع نموذج ديمقراطية المحافظين الجدد. ان اقتصاد القروض المنخفضة بإستمرار واصدار النقود بدون تغطية والذي وصفه فلاديمير ياكونين رئيس المنتدى الاجتماعي العالمي ” حوار الحضارات” قد شارف على نهايته ( ظهرت أولى علائم  بروزه منذ الأزمة المالية الاسيوية في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي). ان مشكلة الديون التي كانت سابقا من نصيب الدول الافريقية والدول الاسيوية الفقيرة قد اصابت الآن البلدان المتطورة. اذ تتجاوز ديون الولايات المتحدة 16 تريليون دولار ، لكن الجميع يتظاهرون بأنه لا يحدث أي شئ غير عادي. Business as usual ؟

في الواقع ان الثورات العربية اندلعت  ليس فقط لأن الحكم الدكتاتوري الطويل الامد  قرر تحويل رؤساء الجمهوريات الى ملوك بالوراثة ، بل غرس – عن طريق إجراء الاصلاحات من فوق- النموذج الليبرالي الجديد الذي أدى الى زعزعة المجتمعات التقليدية العربية بشدة.  وقد مضت في هذا الدرب سابقا ايران حيث مهدت ” الثورة البيضاء” التي قام بها نظام الشاه الطريق لمجئ الخميني.  وتفاقم ذلك في الاقطار العربية لدى ارتفاع اسعار المواد الغذائية بحدة بسبب الجفاف في عام 2010 . علما ان الجفاف استمر في بعض البلدان مثل سورية عدة سنوات مما أدى الى نسف العقد الاجتماعي بين المجتمع والدولة. ان سبب الأزمة لا يعود الى النظام السياسي دائما.

وماذا يحدث في الغرب نفسه؟ إن مشروع العملة الاوروبية الموحدة الذي قوبل بحماس كبير أخذ ينهار. وغدت مسألة خروج اليونان من منطقة اليورو قضية أشهر وأيام لا اعوام. ونشرت صحيفة ” ايكونوميست” اللندنية في عددها الصادر في 19 أيار/مايو عام 2012 مقالة افتتاحية اوصت فيها الاتحاد الاوروبي واليونان بالاستعداد كما يجب للخروج من منطقة اليورو، ليس انطلاقا من مقولة انه ” يجب ابقاء اليونان في منطقة اليورو” التي وردت في القمة الاخيرة لمجموعة الثماني في كامب ديفيد في أيار/مايو 2012 ، بل من وجهة نظر ان خروج اليونان بشكل منتظم من منطقة اليورو هو افضل من الخروج المقترن بالفوضى.(وتقف في الطابور ايرلندا واسبانيا وايطاليا والبرتغال – اي بلدان PIIGS  السيئة الصيت). وتنبثق على التو اسئلة كثيرة حول كيف أمكن حدوث ذلك؟  وبدأ ليس الخبراء فقط بل واوساط واسعة من المجتمع الدولي بالقول:” نحن لا نريد ان ندفن تحت انقاض الليبرالية الجديدة “. وتتعرض للشك نفسها أسس النظام الذي قدم الى العالم بإعتباره افضل نظام ديمقراطي وأكثره نجاحا.  وكتب بيير لاروتورو عضو ما يسمى ” فريق روزفلت -2012 ” ( يضم ايضا شخصية معروفة هي ميشيل روكار) في صحيفة ” موند ” ايضا يقول:” دع هذا لا يحظى بإعجاب الليبراليين الجدد، لكننا نواجه ليس أزمة دولة الرخاء العميم، بل نواجه أزمة الرأسمالية، التي يجعل عمقها السحيق اعطاء الاجوبة الكلاسيكية غير كاف ..”.

ان دراسة مكنونات آليات  محاولة العولمة 1.0 ،التي أصبحت احد اسباب الأزمة الحالية للنموذج السياسي والاقتصادي في اعوام التسعينيات ومطلع الالفية الثالثة، تظهر بأنها وقفت وتقف فعلا  على ثلاث ركائز اساسية هي : قدرات الشركات المتعددة الجنسيات ، التي تمتلك ، ومثالها ” ايكسون موبيل”، الامكانيات المالية لدولة متوسطة الحجم وتمثل بصفتها ركيزة في الولايات المتحدة ، والمؤسسات المالية فوق الجنسيات مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي وول ستريت  بكل ما فيها من موارد مالية هائلة ، وأخيرا ، كما ارتكزت على البنية السياسية – العسكرية ممثلة بالناتو. بينما قامت بدور المحور الاساسي عملة الدولار السائدة في العالم بصفتها” الدم الازرق” للإقتصاد العالمي ( الآن يوصف في احيان كثيرة بانه ” الرئيس الميت”) وايديولوجية المحافظين الجدد حول حقوق الانسان بصفتها الاداة لفرض الشرعية على هذا الشكل من العولمة الذي يضمن جميع قدرات الاعلام الامريكي وهوليوود ، وكذلك احدث التكنولوجيات المعلوماتية التي توفر امكانيات لا نظير لها سابقا في التلاعب بوعي الجمهور وشن ” حروب الشبكات الاعلامية”.

إذن اين حدث التصدع  في النموذج الاول للعولمة ، وكان من أعراضه وقوع الثورات العربية؟

لقد حدث حسب اعتقادنا على مستويات عديدة. ولنبدأ من ان المؤسسات المالية الدولية       والبنوك العملاقة المتعددة الجنسيات ، كما قال فلاديمير لينين الناقد الشديد للأمبريالية بمناسبة أخرى ” قد جمعت بأيديها سلطات واسعة للغاية “.وكما تبين فأنها وكذلك الشركات المتعددة الجنسيات لا تخضع للمحاسبة أمام اي أحد  في اطار سوق الاموال والسلع والخدمات المتعولمة بلا رجعة. وهذا الأمر الذي وصف بلفظة تبعث على الخجل هي ” أعادة التحكم ” قاد الى الاستغلال الفاحش والذي يتناقض بشكل مباشر مع نموذج الديمقراطية التعددي الخاضع للمحاسبة من قبل الشعب، الذي طرحه اصحاب العولمة 1.0 انفسهم .  فمن ينتخب مدراء البنوك في وول-ستريت ام قيادة الشركات المتعددة الجنسيات؟ هذا السؤال لا يحتاج الى جواب.

ويأتي المزيد لاحقا. ان نموذج العولمة المقترح كان يرتكز على بنية أساسية مالية ومؤسسات مالية وعملاء ممثلين بالشركات المتعددة الجنسيات وفي وول-ستريت لكن لم تتوفر لديها البنية الأساسية الصناعية المنتظمة. وبنتيجة توزيع العمل الدولي  في ظروف الانتقال الحر للرأسمال ومبدأ جنى الحد الأقصى من الارباح فأن اعادة اطلاق التحكم الآنفة الذكر قد جرت في اعوام التسعينيات ومطلع الالفية الثالثة  بصورة عشوائية وادت  الى اعادة توزيع القدرات الصناعية بشكل كبير ، مما قاد الى حدوث اختلالات التوازن بشكل دراماتيكي . فأخذت تتطور بسرعة بلدان (اسيان) بينما بدأ تقلص الانتاج في الولاايت المتحدة ( يعطي الانتاج النصاعي فيها الآن نسبة 12 بالمائة فقط) وفي بلدان الاتحاد الاوروبي ، واصبحت عدة مناطق” ملعونة” ، اذ تحولت اما الى مناطق لتصدير المواد الخام واما الى مناطق ركود الانتاج وشملت العديد من البلدان.  وكان ذلك ايضا احد اسباب ” الربيع العربي”. ان شباب الشرق الاوسط الذي حصل على تعليم لا بأس به بفضل سياسة الحكومات ينتظر ان تتطور دوله كما ينبغي ، بينما يراد منها ان تصبح مستهلكة للسلع الواردة من ” المناطق الصناعية” مثل الصين وكوريا الجنوبية.

وأخيرا انهار نموذج الرخاء الاقتصادي نفسه والذي قام على أساس القروض الطويلة الأجل ، وضمن الوتيرة العالية لتطور الاقتصادات الغربية على مدى 40 عاما الماضية – بعد “فصل” الدولار عن الذهب في عام 1971 . ان هذا النموذج الذي أعطى في البداية دفعة قوية الى التطور الصناعي قد تحول الى “كازينو – الرأسمالية ” الآنفة الذكر ، لأن الموارد المالية قد انفصلت كليا عن الأساس الصناعي. وتبين ان نسبة 80 بالمائة من الانتاج قد نقل الى آسيا  بينما تمرر نسبة 80 بالمائة من النقود عبر وول-ستريت.ان مثل هذه البنية للأقتصاد العالمي لا يمكن ان تبقى فترة طويلة وبثبات ، وهذا ما أظهرته أزمة عام 2008 ، وكذلك الثورات العربية.

وثمة عامل هام ولد الكثير من المشاكل لصيغة العولمة الراهنة، ويكمن في ان البنية الاساسية القاعدية ( بإستثناء الانترنت والاتصالات عن بعد) لم تكن مستعدة  للعمل في ظروف العولمة. الأمر الذي قاد الى وقوع خسائر اقتصادية وسياسية كثيرة غير مبررة. فمثلا ان غياب البنية الاساسية الأرضية لنقل النفط من منطقة الخليج العربي يجعل العالم كله يرتعب هلعا حين تبدأ ايران بالحديث عن غلق مضيق هرمز الذي تمر عبره ناقلات النفط من بلدان المنطقة او حين تعلن اوكرانيا عدم موافقتها على عقود الغاز المبرمة مع روسيا.

وكما كتبت صحيفة ” سعودي غازيت ” السعودية فأن الولايات المتحدة منشغلة بأمور أخرى ومثالها مشروع مد خط أنابيب الغاز تركمنستان  – افغانستان – باكستان – الهند ليس لاعتبارات الجدوى الاقتصادية بل من أجل احباط مشروع نقل الغاز ايران – باكستان – الهند الاكثر نفعا من الناحية الاقتصادية لكنه لا يروق لواشنطن من الناحية السياسية.

وثمة نقص آخر لا يقل أهمية هو استحثاث تسليم الصلاحيات الى الهيئات الوطنية التي لم ينتخبها أحد ولا تخضع للمحاسبة من قبل أي أحد. ويجب ان تتوفر الثقة من اجل ان تعمل بصورة صحيحة ، بينما تغدو هذه الثقة اقل فاقل ، كما تظهر نتائج الانتخابات البرلمانية في اليونان التي تحولت كما قالت صحيفة ” ايكونوميست” نفسها الى استفتاء على الثقة بالاتحاد الاوروبي.

لكن وهن الدول الوطنية يحمل في طياته الكثير من المخاطر. ولا تستطيع اية مؤسسات أخرى – لا الجيوش الخاصة ولا بطاقات visa  الائتمانية معالجة المهام التي تشكلت تأريخيا وتعالج ضمن أطرها ، ولاسيما قضايا الأمن.

ان الحلقة الرئيسية ، ان جاز القول ، التي تشكل النظام، المؤدية الى أزمة نموذج العولمة المعاصر ، هي انها انطلقت من أحد مراكزه وبدعم الولايات المتحدة وحليفاتها فقط ، وتم ذلك بالوسائل القسرية في غالب الاحيان ، وبفرض النظزام المقترح بإعتبار انه لا بديل عنه. ولا تراعى المصالح الوطنية للآخرين ، وحتى اللاعبين الكبار  في الساحة الدولية ، حيث يطلب منها فقط الانضمام الى المؤسسات الدولية الموجودة للعالم الاحتكاري وقبول “المنغصات” ، وبعبارة اخرى الانتقاص المتزايد لسيادتها. وقد اقترح ويقترح  حتى الآن ان تتنازل جميع الدول بإسم ” القيم المشتركة ” عن مكسبها التأريخي الرئيسي اي الحق في ان تختار طريقها في التطور بنفسها.

فماهي عواقب هذه العولمة وماذا يجب عمله لهذا كله؟

يحبذ ان يعيد الشركاء الغربيون النظر في مبادئ اعداد القرارات حول قضايا الأمن الاساسية – سواء فميا يتعلق بالدرع الصاروخية الاوروبية او البرنامج النووي الايراني ( بالمناسبة ان هاتين المسألتين مترابطتان او بالأحرى ربطتهما البلدان الغربية بصورة مصطنعة). والمهم ينبغي تجنب القعقعة بالسلاح وعدم تخويف العالم بشبح الحروب الجديدة،  وعدم خنق الشركاء بفرض عقوبات وحيدة الجانب ، بل الانتقال الى الحوار الصبور الطويل الأجل مع الشركاء” الصعبين” واحدهم بالمناسبة هي روسيا.  ويبدو انه يجري فعلا الآن ما يساعد لحد كبير سياسة ” اعادة التشغيل ” التي اعلنتها ادارة باراك اوباما الامريكية.

وفي نهاية المطاف ينبغي الاعتراف بأن العالم أكثر تعقيدا وتعددية من جميع اكثر الابتكارات حيلة التي يقترحها المنظرون الادعياء لمفاهيم العولمة المتعددة الاقطاب. حقا ان العولمة ستواصل مسيرتها لكنها ستمضي ليس في الدروب المعدة مسبقا ، بل في الطريق الذي رسمته الحياة نفسها ويتطلب احترام مصالح جميع الاطراف في العلاقات الدولية وتاريخها وثقافتها وديانتها وحضارتها في نهاية المطاف.

وهذا يعني ان من واجب البلدان كافة ، وبضمنها الأكثر تطورا،العودة الى أسس نظام ويستفاليا ، والى مبادئ السيادة الوطنية ، حتى اذا اعتبرها البعض تراجعا الى الوراء. ان اللاعبين غير الحكوميين في العلاقات الدولية مهمون ويمارسون دورا متزايدا بعكسهم لطائفة واسعة من الآراء في المجتمع المدني. لكنهم لن يحلوا محل الدولة حيث لا تتوفر لديهم ادواتها وصلاحياتها ومواردها وقدراتها.وينبغي طبعا التوجه بأكمل قدر نحو هيئة الامم المتحدة ونحو أسسها في القانون الدولي ، وربما التفكير في اعادة  عدد من المواضيع الدولية، التى انتقلت الى منظمات دولية أخرى تقف بعيدا عنها ، الى كنفها.

لقد تحدث السياسي المخضرم والدبلوماسي هنري كيسنجر في مقالته “التدخل في سورية يمكن ان يترك عواقب ذات طابع شامل ” المنشورة في ” واشنطن بوست ” بتأريخ 4 حزيران/يونيو عام 2012 ، بصورة مفاجأة عن وجوب الحفاظ على مبادئ نظام ويستفاليا بشأن أولوية سيادة الدول. وكتب ضمنا دفاعا عنها من تطاول الانصار الغيورين لمفاهيم ” التدخل  الانساني” يقول:” .. لم تزل باقية الضرورات الملحة  التقليدية. ان تبديل النظام قسرا يولد ضرورة بناء الدولة الوطنية. واذا لا يتسنى تحقيق ذلك  فأن النظام الدولي نفسه يبدأ بالانحلال. ويمكن ان تظهر بقع بيضاء خارجة على القانون تهيمن على الخارطة كما حدث ذلك في اليمن والصومال وشمال مالي وموريتانيا وفي شمال غرب باكستان. وهذا كله يمكن ان يحدث في سورية. ان انهيار الدولة  يمكن ان يحول اراضي البلاد الى قاعدة للإرهاب او تهريب السلاح الى الدول المجاورة والتي في غياب أية سلطة مركزية لا تمتلك الوسائل لمقاومة ذلك”.

وكتبت ” ايكونوميست ” أنه تنبغي “إعادة هندسة”  عميقة ، وليست التغييرات التجميلية الشكلية ، للمنظومة المالية العالمية ، لأنه من الواضح انه لا يمكن الاستمرار في العيش على أساس  العملة النقدية الاحتياطية فقط “المحشوة ” بالنقود الفارغة. وبلدان (بريكس) تدرك ذلك جيدا.

وأعتقد ان من المهم ان ينزل الغرب من منصة المراقب الذي يلقن بقية العالم الدروس حول كيف يجب ان يعيش ، ويجدر به ان يفهم ويتقبل واقع ان الهيئات الدولية التي تظهر على الصعيد الدولي مثل بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي وغيرها ليست مجرد تحولات مفاجئة وتقلبات التأريخ بل عملية حتمية لتشكيل عالم متعدد المراكز وكثير الانساق حيث يجب ألا تتم معلجة  المهام الشاخصة أمام  بعضها  عبر انتقاص حقوق ومصالح الآخرين ، وحيث يتطور التعاون على اساس التكافؤ.

طبعا ان عملية اصلاح نموذج العولمة  يتطلب بذل جهود كثيرة ، والاعتراف بأن عهد احتكار اصدار القرارات وطرح نماذج التطور التي يجب لأمر ما ان يتقبلها الجميع بإعتبار ان لا بديل عنها ، قد انتهى. كما ان لاعبين جدد يظهرون على الساحة العالمية ويطالبون بمنحهم حقوقا متساوية مع اللاعبين”الرئيسيين” سابقا ، وهم يبحثون عن طريقهم وعندما يجدوه لا ينحرفون عنه. ولربما يعتبر هذا الأمر أحد اللاعبين الرئيسيين في ” الربيع العربي”…

بقلم : اوليغ اوزيروف
سفير روسيا في المملكة العربية السعودية
ممثل روسيا الدائم في منظمة التعاون الاسلامي

المصدر: مجلة ” الحياة الدولية “

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock