مقالات وآراء

العلاقات العربية الروسية وضرورة البحث عن روافع جديدة .. بقلم سامر الياس

أنهى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جولة قصيرة وخاطفة في منطقة الشرق الأوسط. وتختلف الجولة الحالية كثيرا عن نظيرتها في ربيع العام 2005. ففضلا عن اقتصارها على إسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية والأردن، فإنها تأتي بعد تغيرات عاصفة شهدتها المنطقة منذ بداية العام الماضي، وانعكست سلباً على العلاقة بين روسيا والبلدان العربية، وهو ما تحاول إسرائيل استغلاله من أجل تمتين العلاقات مع روسيا، وتقديم نفسها طرفاً رئيساً يرعى مصالح موسكو في المنطقة، وبدا هذا التوجه جلياً في حفاوة الاستقبال، وكلمات المجاملة الكثيرة بحق بوتين والدور الروسي في المنطقة والعالم.

شرق أوسط جديد…

تغيرت المنطقة كثيرا وتكاد لا تشبه تلك التي زارها بوتين قبل سبع سنوات، فالولايات المتحدة لملمت خيباتها وانسحب من العراق، وقد تجذر وجود القاعدة فيه، وخسر أكثر من مليون قتيل وشرد مئات الألوف من أبنائه، ومازال السلم الأهلي مهددا فيه مع تواصل عمليات القتل والتفجير التي تتصدر نشرات الأخبار العالمية، وما كان يتم تداوله حول هلال شيعي في المنطقة اكتمل ببروز تيار سني منافس له، فالانسحاب الأمريكي ترك العراق، حسب خبراء، مستباحاً لنفوذ حكم “الملالي”، ويبرز التحالف الاستراتيجي واضحا بين طهران، وبغداد المالكي، وصولا إلى حزب الله مرورا بنظام الرئيس بشار الأسد، وفي المقابل تجاهر بلدان الخليج العربي بعداء إيران، وتُسخر كل ما لديها من طاقات من أجل إسقاط نظام الرئيس الأسد وتفكيك هذا المحور، كمقدمة لتوجيه ضربة قاسية للطموح النووي الإيراني، ومما لا شك فيه أن بوتين اطلع على موقف القيادات الإسرائيلية المتشدد في نفس الملف، واستمع إلى دعوات بزيادة الضغط على طهران لوقف برنامجها النووي، وأن صبر تل أبيب قد ينفد قريباً وتجد نفسها مضطرة لضرب المنشآت النووية ما ينذر بحرب شاملة مباشرة، وبالوكالة بين إيران وإسرائيل.

التغيرات طالت الوضع الفلسطيني، فسلطة الرئيس محمود عباس تكاد تقتصر على مناطق محدودة من الضفة الغربية، بعدما عمدت إسرائيل إلى تقويض أسس هذه السلطة بزيادة حجم البناء الاستيطاني، والاقتحامات اليومية التي زادت ضعف السلطة ضعفا، التي تلقت صفعة كبيرة حين استقلت حركة حماس منذ أكثر من خمس سنوات بقطاع غزة استقلالا كيانيا وسياسيا، ولم تنجح السياسات الإسرائيلية والاعتداءات المتكررة على الضفة وغزة، واحكام السيطرة على القدس في تجميع الأخوة-الأعداء، وباءت كل المحاولات العربية والدولية، بما فيها الروسية لانهاء الانقسام بالفشل الذريع حتى الآن.

وعمان محطة بوتين الثالثة تزداد مخاوفها وهمومها تحت ثقل مشكلات الجيران شرقاً في العراق، وغربا في فلسطين، وازدادت الأمور سوءا إثر انطلاق الحراك في سورية ونزوح عشرات الألوف إليها من الشمال.

لكن التغير الأبرز يكمن في طبيعة العلاقة بين معظم البلدان العربية وروسيا، بعد ثورات الربيع العربي، على خلفية موقف موسكو من الأزمة السورية، والواضح أن الأمور لا تسير، حتى الآن، نحو تفاهمات بين الطرفين على غرار اتفاق وزراء الخارجية العرب ونظيرهم سيرغي لافروف والذي حدد إطار الحل المقبول روسيا في بداية العام الحالي، ويبدو أن صلاحية هذا الاتفاق تقترب من النهاية مع إصرار موسكو على دعم نظام الرئيس الأسد، والتأكيد على أنها تدعم الدولة السورية وليس شخص الرئيس، وزيادة حجم الدعم الخليجي للمعارضة السورية، بما فيها المسلحة، انطلاقا من “الواجب” و”حق الدفاع عن النفس”، وربما نحت الأمور إلى مزيد من المواجهة في حال فشل خطة المبعوث المشترك كوفي عنان بسبب عدم وجود أي خطة بديلة في الوقت الحالي.

إسرائيل حفاوة وخلافات ونظرة إلى المستقبل…

استقبلت إسرائيل بوتين كداعية سلام، واهتمت بأدق تفاصيل الزيارة من أجل انجاحها والخروج بانطباعات تشير إلى توافق كبير بين الطرفين، وكان التركيز واضحاً على القضايا التي تجمع الطرفين مثل الحديث عن أن خُمس سكان إسرائيل من المهاجرين الروس، حتى أن وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان بدا كحارس شرف لبوتين طوال وقت الزيارة، لكن مساعي القادة الإسرائيليين بتغيير موقف موسكو بشأن الملف النووي الإيراني لم يكتب لها النجاح على ما يبدو، واحتفظ كلا الجانبين بموقفه، فموسكو مازالت ترى كما أكدت مرارا بأن المفاوضات هي السبيل الأفضل لحل الملف النووي الإيراني، فيما تواصل تل أبيب الحديث عن مخاطر وجودية تهددها في حال امتلاك إيران للسلاح النووي، وتشدد على حقها في توجيه ضربة استباقية للمشروع، ضربة ترى موسكو أنها تفتح على تداعيات خطيرة في منطقتي آسيا الوسطى وحوض قزوين الحيويتين بالنسبة لها.

وفي تصريحاته الصحفية جدد بوتين موقف موسكو الرافض للتدخل الأجنبي وفرض أجندات خارجية على الدول، في إشارة إلى الموقف من سورية، ونقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن الرئيس بوتين أكد أن بلاده تقف موقفا محايدا في الموضوع الإيراني، وفيما يخص سورية كشفت عن أن جواب بوتين كان واضحا وهو أن بلاده تقف إلى جوار سورية التي تربطها بها مصالح قديمة، وعلاقات تاريخية.

وعلى رغم الخلافات في هذين الملفين وعدم وجود آلية واضحة لاطلاق المفاوضات مع الفلسطينيين فإن مراقبين يشيرون إلى مخاوف مشتركة من صعود التيارات الإسلامية إلى سدة الحكم نتيجة ثورات الربيع العربي، ويذهب فريق آخر إلى أن موسكو تحضر لبناء علاقات متينة مع تل أبيب في مواجهة صعود تيارات وقوى جديدة في المنطقة العربية، وأن التعاون سوف يتضمن التنسيق في مجال الطاقة بين إسرائيل وقبرص واليونان مع روسيا خصوصا بعد اكتشافات الغاز الطبيعي الكبيرة في منطقة شرق المتوسط، إضافة إلى تعزيز التعاون في المجالات الاقتصادية الأخرى وخصوصا التقنيات العالية والزراعة وغيرها.

فلسطين … على ثوابت السياسة السوفيتية

أعاد الرئيس بوتين إلى الأذهان أن الاتحاد السوفيتي اعترف بالدولة الفلسطينية منذ 25 عاماً، وأكد أنه لا تغير في السياسة الروسية في هذا الاطار، وحثّ بوتين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على التحلي بضبط النفس، والالتزام بالتعهدات التي أخذها كل جانب على عاتقه سابقاً، وحذر من أن اتخاذ أي خطوات أحادية الجانب سوف يأتي بنتائج عكسية. ودعا مختلف القوى الفلسطينية إلى توحيد صفوفها لما فيه من مصلحة وطنية، وأكد أن التعاون الانساني بين الطرفين يزداد عاما بعد آخر.

ورعى بوتين مع نظيره الفلسطيني عباس احتفالا بتدشين مركز الثقافة والعلوم في مدينة بيت لحم. وجددت السلطة الفلسطينية موقفها المؤيد لعقد مؤتمر دولي للسلام في موسكو للخروج من حالة الاستعصاء الذي وصلت إليه المسيرة السلمية.

رسائل روسية

استقبل الرئيس بوتين بحفاوة بالغة حيثما حل في جولته الحالية، وتمكن من رؤية زرقة البحر الأبيض المتوسط في شاطئ نتانيا، وترك تحفة معمارية للتاريخ تمجد تضحيات الجنود السوفيت في الحرب العالمية الثانية في القضاء على النازية، واشتم نسيم البحر الدافئ العليل محاطاً بعشرات المتحدثين باللغة الروسية وعلى رأسهم ليبرمان، ومنها انتقل إلى القدس في فندق المللك دواوود الذي أغلق أبوابه أمام الزوار تكريما للضيف، ومنه انتقل إلى مهد المسيح  في بيت لحم وزار كنيسة المهد، ودشن مركز الثقافة والعلوم الروسي في المدينة، وفي الأردن استكمل رحلة أقرب ما تكون إلى الحج بتدشين بيت الحجاج الروسي على ضفة نهر الأردن الشرقية، في تحفة معمارية صممت لتصمد في وجه الفيضانات والزلالزل وحركة المياه الجوفية.

والواضح أن إسرائيل كانت الهدف الرئيس من الزيارة، وأما الرسائل فكانت متنوعة وفي كل الاتجاهات، وهي باختصار ثبات الموقف الروسي من موضوعي سورية وإيران، وإصرار موسكو على عقد مؤتمر للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولفت أنظار العرب والعالم إلى أنه بدون حل عادل للقضية الفلسطينية لن تنعم المنطقة بالأمن والسلام المنشودين، إضافة إلى التأكيد لواشنطن أن موسكو تحظى بقبول في منطقة الشرق الأوسط حتى لدى قادة حليفتها إسرائيل رغم اختلاف الرؤية في بعض القضايا.

ولعل أهم ما في الزيارة أن موسكو قررت الاطلاع على تقديرات أهل المنطقة لما يجري فيها من تغيرات إثر موجة الربيع العربي من أعلى المستويات، وهنا فإن اقتصار الجولة على  إسرائيل والأردن ومناطق السلطة الفلسطينية لا يعني الكثير، ورغم أن هذه الدول لا تجمعها مصالح كبيرة مع روسيا، إلا أنه لا يمكن اسقاط دور الصراع العربي الإسرائيلي في تحديد مستقبل المنطقة، وأخيرا فإن موسكو قالت للعرب إنها موجودة، ومنفتحة على الحوار رغم الاختلاف في الآراء وهذا ما يمكن أن نتعلمه من نتائج مباحثات بوتين مع القادة الإسرائيليين، فالمواقف وإن تباينت فإن الساسة يبحثون عن نقاط التقاء جديدة من أجل مصلحة بلادهم وتنفيذ سياساتهم.

وأخيرا فإن التغيرات الحاصلة في المنطقة تتطلب من الطرفين الروسي والعربي البحث عن روافع جديدة لدفع العلاقات في الاتجاه الصحيح انطلاقا من الإرث التاريخي لهذه العلاقات، وإمكانية قيام تعاون بناء يصب في مصلحة الشعوب العربية والروسية في هذه الفترة الصعبة التي تعيشها المنطقة والعالم عموماً، فالصديق القديم خير من إثنين جدد…

سامر الياس

(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock