أعتقد أنه لم يعد هناك أحد لديه ذرة شك أن العالم القديم قد مات، والإنسانية الآن بصدد حقبة انتقالية تتميز بعمليتين رئيسيتين.
الأولى، أن الأزمة الاقتصادية الراهنة هي الأكبر في تاريخ البشرية، ستتسبب في انهيار أكبر هرم ديون في التاريخ، ثم انهيار الدولار الأمريكي كعملة عالمية، وانهيار العولمة والتجارة الدولية والسلاسل التكنولوجية.
الثانية، المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، من أجل الحق في مشروع عولمة جديد، لتحقيق مكاسب اقتصادية منه.
بالنسبة للعرب، لن تكون المرة الأولى التي تصبح فيها منطقة الشرق الأوسط ساحة للصراع بين قوتين عظميين. وعلى الرغم من جميع السلبيات التي اتّسمت بها الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن جميع الدول العربية تمكنت من جني بعض المكاسب، تلك التي كانت على جانبي الصراع، وحتى تلك التي التزمت الحياد فيه.
أما الآن، فالوضع مختلف للغاية. أولا، سوف تتسبب الأزمة الاقتصادية الكبرى، التي يمر بها العالم، في جعل الخصوم أكثر شراسة، مع مزيد من الإملاءات وقليل من الإقناع، وستصبح الإجراءات القاسية التي اتخذها الرئيس الأمريكي تجاه حلفائه، مجرد مقدمات وديعة مقارنة بما هو آت، بينما ستحاول كل الأطراف التخلص من الحمولة الزائدة من السفينة الغارقة بكل قسوة وحدّة.
إن الوضع يتفاقم بالنسبة للعرب، بسبب التراجع الكارثي في أهمية المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. أو بمعنى أدق، لم يعد النفط العربي ذو أهمية لازدهار وقدرة الاقتصاد الأمريكي، لكنه في الوقت نفسه هام للولايات المتحدة الأمريكية بغرض منع ازدهار الاقتصاد الصيني والحد من قدرته الوظيفية. يشبه ذلك المثل الروسي حيث لا يسمح الكلب للبقرة بأكل التبن، وهو نفسه لا يأكله. بل إن زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط سوف تكون وسيلة فعالة للغاية لمنع الصين من الوصول إلى موارد النفط في المنطقة.
إننا نشهد بالفعل الخطوات الأولى في هذا الاتجاه، وهي نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، وما يسمى بـ “صفقة القرن”، وضمّ إسرائيل للأراضي الفلسطينية. لقد أبدت الولايات المتحدة استعدادها لقبول أي مستوى من زعزعة الاستقرار في الأراضي الفلسطينية وحول إسرائيل.
أفترض أن تكون الخطوة الثانية هي وقف الدعم لجيران إسرائيل العرب، حيث لم تعد هناك حاجة للدفع مقابل ولائهم لإسرائيل.
التالي، لبنان الذي يعاني من حالة كارثية متصاعدة. من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت مستعدة لتقبل أي درجة من الفوضى في لبنان، بل من الممكن اعتبارها خطة مقصودة لإضعاف حزب الله كحد أدنى، أو لتدميره كليا كحد أقصى، الذي يعجز، شأنه في ذلك شأن جميع الأحزاب السياسية الأخرى في لبنان، عن وقف انهيار البلد دون مساعدة خارجية.
تأتي بعد ذلك سوريا وروسيا، وهما حجر عثرة بالطبع. ولكن إذا ما فكّرنا بواقعية، يتعيّن الاعتراف بأن الولايات المتحدة تنأى بنفسها على التدخل الفعلي في سوريا، ولو كانت قد فعلت ذلك لكانت روسيا قد واجهت مصاعب أكبر بكثير مما تواجهه الآن. أي أن سلبية الولايات المتحدة الأمريكية في سوريا هي علامة على إهمال الولايات المتحدة الأمريكية للمنطقة.
لا زالت الصين، مؤقتا، تشعر بالارتياح في إطار مشروع العولمة الأمريكية، وتتجنب متعمّدة أي منافسة سياسية مع الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الأخيرة الآن تفرض على الصين صداما مباشرا معها، في الوقت الذي تميل فيه توازنات القوة العسكرية والاقتصادية في الوقت الراهن إلى جانب الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها. إلا أنه لن يكون هناك خيار أمام الصين، وسيتعين عليها أن تقاتل، لأن الخسارة محفوفة بعواقب وخيمة على الاقتصاد والاستقرار الداخلي. فقد تسبب حادث مماثل في النصف الأول من القرن التاسع عشر أثناء حروب الأفيون، وهزيمة الصين أمام الإمبراطورية البريطانية، في قرن ونصف القرن من الكوارث الاجتماعية والفقر والتدهور بالنسبة للصين.
لذلك فإن منطق الأشياء يجبر الصين على المواجهة، باستخدام أي موارد متاحة للقتال، بما في ذلك دعم القوى المعادية للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
الجائزة الرئيسية وساحة الصراع الرئيسية هي ممالك النفط في الخليج. سوف يتعين عليهم أن يتخذوا خيارا شديد الصعوبة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وعلى الأرجح سوف تجلب لهم أي الخيارات أسوأ الخسائر. فمن الناحية الاقتصادية، تعد العلاقات بين ممالك النفط والصين ما يمكن وصفه بالزواج المثالي، حيث أصبحت الصين المستهلك الرئيسي للنفط في الخليج. لكن الجمود السياسي عظيم، حيث لن تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن الخليج بدون قتال.
ربما سنشهد في المستقبل القريب موجة متزايدة من العقوبات الأمريكية ضد الصين، وفي مرحلة ما، ستواجه الولايات المتحدة الأمريكية العرب في الخليج بحاجتها لمشاركتهم في الحرب التجارية ضد الصين، بما يتضمنه ذلك من وقف تصدير النفط إلى بكين. كما أسلفت، سوف يكون أي قرار تتخذه هذه الممالك كارثيا، لكن لا مفر منه.
أما مصر، فقد أصبحت عبئا مكلفا أكثر من اللازم كحليف كامل، لأن احتمالات حدوث مشكلات اقتصادية هناك يتطلب الكثير من ضخ المساعدات. كما أن تأثير مصر ضئيل على النقطة الأساسية مثار الصراع بين الأطراف، أي كل ما يتعلق بالنفط ونقله إلى الصين. ولكن في الوقت نفسه، فالوزن السياسي لمصر كبير، لذلك فمن المحتمل أن تترك مصر وشأنها، ولن تشارك في المواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
ستواجه بقية الدول العربية بضرورة حسم أمرها والاختيار بين السيئ والأسوأ، بين المشاركة في العقوبات الأمريكية ضد الصين أم لا. وأجازف بالقول بأن معظم الخيارات سوف تحسم، تحت الضغط، لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من الخسائر الاقتصادية الهائلة التي ستعانيها هذه الدول، وحتى مع احتمالات فقدان الاستقرار الداخلي.
ربما سوف تحاول الصين جرّ بعض الدول العربية، خاصة عرب الخليج، إلى جانبها. ولكن إذا ما أخذت هذه الدول صف الولايات المتحدة الأمريكية، فمن المحتمل حينها أن نرى الصين تنضم إلى الصراعات الإيرانية السعودية وغيرها من الصراعات التي تضم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
سيريان تلغراف