المجسمات الهندسية الرقمية أنواعها ومنافعها في الحفاظ على التراث العمراني
تستخدم مجموعة متعددة من أنواع إعادة التمثيل والإظهار المعماري في وصف مختلف المنشآت الهندسية والفضاءات الحضرية والتي يمكن استخدامها في مجال الحفاظ العمراني، وتتضمن كل من الوسائل ذات الأبعاد (2D – 2.5D – 3D – 4D) ، والتي يمكن أن تكون مخططات قياسية ورقية كالمخططات الأفقية والواجهات والمقاطع، صور فوتوغرافية، مجسمات مادية، نماذج حاسوبية وأفلام متحركة، ومحاكاة الواقع الافتراضي وغيرها. ويمكن تصنيفها تبعاً لعدد الأبعاد التي توفرها أو إلى نوع المستخدمين أو إلى زمن الدوام.
أنواع المجسمات:
وفقاً لأنواع المستخدمين، يوجد نوعان من النماذج والمجسمات المتعددة الأبعاد. فالمجسمات التي يتم إنشاؤها للاستخدامات المهنية لفريق المشروع تمتلك فروقات مهمة عن النماذج التي يتم إنشاؤها للمستخدمين النهائيين. الأولى يتم إنشاؤها واستخدامها من قبل المهندسين الاستشاريين، شركات التنفيذ، المقاولين، والموردين، أو يمكن استخدامها داخلياً ضمن مؤسسة واحدة أو بالاشتراك مع المجموعات المتخصصة المشاركة الأخرى في المشروع نفسه. وعلى العكس فالمجسمات المنشأة للأغراض الأخرى عادة ما تكون مختلفة تماماً عن تلك المستخدمة من قبل المتخصصين، ويتم استخدامها على نطاق تفاعلي أوسع مع الزبون، والقطاع الخاص، والإداريين، ومؤسسات التمويل والمخططين.
ومن ناحية أخرى يمكن تصنيف المجسمات تبعاً لزمن بقائها (Duration) فتصنف إلى المجسمات ثلاثية الأبعاد الساكنة كالمجسمات الفيزياوية المادية؛ ومجسمات الحاسوب 3D CAD التي يمكن استكشافها من زوايا نظر ساكنة ومتعددة؛ والمجسمات الديناميكية والتي يتم إظهارها في الأفلام وبرامج الحاسوب المتحركة والتي تتغير أثناء الزمن وتشاهد من خلال مشاهد سينمائية؛ والمجسمات التفاعلية مثل مجسمات البيئة الافتراضية والتي يتم إنشاءها باستخدام برمجيات الحاسوب وتشاهد في الوقت الحقيقي.
منافع المجسمات:
للمجسمات منافع عدة في أعمال توثيق والحفاظ على التراث العمراني تتضمن:
1. يمكن استخدام بيانات النمذجة ثلاثية الأبعاد للعمليات الرقمية الحاسوبية المطلوبة لإعداد خطط وفعاليات الترميم والحفاظ؛ وللاستخدام من قبل القطاع العام، إذ “إن أفضل المعروضات تلك التي تدفع بالزوار إلى المشاركة بنشاط والتجربة الحقيقية لجوهر تراثهم الثقافي” ؛ وللأغراض التعليمية غير الرسمية، إذ يوفر إمكانية الوصول للعناصر والمباني التاريخية الهامة والمواقع والمعالم الأثرية وأن تكون في متناول الأشخاص من خلال استخدام تقنيات الحاسب الآلي، مثل رسومات الحاسوب، وأجهزة التقاط وإدارة الصور الرقمية، وتقنيات العرض المتطورة، التي قد تمثل تجربة فريدة ونوعية ومتطورة لاستكشاف والتعرف على سكان وثقافات وأماكن العصور القديمة الماضية.
ويمكن للنماذج المجسمة أن تكون مفيدة جداً في تعزيز عملية تحديد وحماية الهوية وفي عملية الرصد والمراقبة في الترميم والصيانة والحفاظ، وتعتبر في كثير من الأحيان كنوع من أنواع تمثيل المعرفة، إذ أنها تستخدم عادة كوثيقة مرجعية لإعادة إعمار المباني كون أنها تقدم وثائق موضوعية وقياسات دقيقة.
ومن مميزاتها أنه يمكن التحقق منها بشكل كامل قبل وبعد إنشاء النموذج الثلاثي الأبعاد، وترميز المعلومات وتحديث المعرفة الجديدة، وتحديد أوجه القصور؛ ويمكن للإداريين، والمتخصصين، وعلماء الآثار من خلال تحليل بيانات 3D حماية وحفظ وحتى دمج العناصر التاريخية المختلفة مع البيئة الحقيقية من أجل تعزيز توثيق الموقع قيد الدراسة من دون أية مخاطر. إن مثل هذه المجسمات يمكن أن تقدم نسخ رقمية أو مادية مثالية ودقيقة تستخدم لإعادة إنشاء أي عنصر من عناصر المنشأ.
وبعد إنشاء المجسم 3D لمبنى تاريخي أو نسيج تراثي معين، فإنه يمكن للمتخصصين اختبار أداء المبنى في البيئة الفعلية، إذ “يمكن استخدامه لاختبار الأداء الوظيفي لمبنى تاريخ أو موقع آثاري، مما يسمح نوعاً ما باختبار التاريخ المعماري، فعلى سبيل المثال، يمكننا قياس القدرة الاستيعابية لمنشأ مثل الكولوسيوم، دراسة مسارات حركة الناس خلال الفوروم الروماني، وتحليل إحصائيات وثوابت المنشآت مثل مبنى بازيليكا سانتا ماريا ماجوري، الذي تم استبدال المحراب الأصلي بعد إتمام بناءه لأسباب غير معروفة لعدة قرون”.
بناءً على ذلك، فإن المجسمات تسمح بفهم وتعريف وتحسين كفاءة واستخدام المبنى التاريخي الموثق وأسباب تشييده. يمكن دراسة واختبار قدرات الهيكل الإنشائي للمبنى الموثق على مقاومة الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والزلازل والعواصف، أو مقاومته للحريق، يمكن فحص ومراقبة المبنى ضمن محيطه أو في بيئته وإجراء البحوث العلمية وتقييس الجوانب الفنية والخدمية ضمنه، إذ يمكن عمل الحسابات حول الإضاءة والصوتيات والتهوية وغيرها.
ومن خلال تبادل بين لقطات المشاهدة للنموذج، يمكن ملاحظة مناطق مختلفة من البيئة الحقيقية بطريقة تعطي بدائل وحلول للعناصر المقترحة أو المشاكل الحالية. وبالإضافة إلى ذلك، إن تكوين المجسمات لبيئة ماضية قد اختفت أو الأطلال المندثرة والتي تعرضت للتشويه بشكلٍ حقيقي عبر الزمان تقدم للخبراء إمكانية تحليل هياكلها البنائية.
وبالتالي، يمكن اعتبار النماذج وسيلة لإحياء المباني التاريخية الحقيقية التي من الصعب جداً أو من المستحيل إعادة بنائها، مما يجعلها على قيد الحياة مرة أخرى في العالم الافتراضي. فهي توفر خيار حفظ وعرض إعادة الإنشاء الرقمية كبيئة افتراضية لمنشأ القديم دون النظر محددات موقع ومحل العرض. كما يمكن إعادة تمثيل الأشخاص والمباني والمناظر الطبيعية وإعادة إنشائها والتفاعل معها من خلال تقنية الواقع الافتراضي الإنغماسي Immersive Realism والذي ينقل المشاهد افتراضياً إلى فترة وأحداث الأماكن التاريخية.
2. تعتبر المجسمات ذات البعد الثالث وسيلة حديثة للاتصال والتواصل المعرفي بين الحقول العلمية المختلفة تتضمن نتائج تخصصية تستخدم في حقول استكشاف التراث العمراني والآثار، وفي تطوير وسيلة اتصال معرفية ملائمة لاستخدام هذه النتائج مع الباحثين، الزبائن والمواطنين. وبالعكس من الأساليب التقليدية في نشر المعرفة، فإن البيئة التاريخية الماضية يمكن دراستها والتفاعل معها بسهولة، موفرة للمستخدم أداة تسمح بفحص ودراسة التفاصيل المعاد تمثيلها والعائدة للمنشآت التراثية والتاريخية بتقنية لم تكن متوفرة سابقاً.
3. توفر هذه المجسمات منافع تعليمية مهمة، إذ أن المحاضر يمكنه تجاوز المصاعب الزمنية والمكانية للبيئة أو الموقع الحقيقي قيد الدراسة من خلال عرض موقع أو منشأ لم يعد موجوداً، أو غير قابل للوصول لأسباب فيزيائية أو خلال الفترة الدراسية.”
إن الميزة الرئيسية التعليمية لنماذج الحاسوب المتعلقة بمواقع التراث والتاريخ الحضاري هو أنها توفر تجربة غير المباشرة للبيانات الحسية بطبيعتها، مثل المباني، الأعمال الفنية والموسيقى والتراث غير الملموس، وما إلى ذلك” . كما تعتبر النماذج ثلاثية الأبعاد من نظم المعلومات الغنية، خصوصا، في البيئة الافتراضية، ذلك أنها تتيح للمستخدمين على وجه السرعة بفحص واستكشاف سطوح العناصر الفردية لمعالجة الوثائق الصورية والنصية الوصفية، والسيطرة على وجهة الحركة لهذه الجولات الاستكشافية، إذ يمكن التنقل في هذه النماذج في الوقت الحقيقي، واستكشاف التفاصيل الإنشائية، والتفاعل من خلال تبادل اللقطات المنظورية التصويرية.
4. تسهل هذه المجسمات للمستخدم عملية التعامل مع المقياس، إذ أن الأبعاد المستخدمة في إنشاء المجسمات قد تختلف عن تلك المستخدمة في أعمال الإظهار. فالمستخدم يمكنه التنقل بين مشاهد متعددة من خلال تغيير اللقطات المنظورية، يقرب جزء المطلوب لتكبير المشهد المعروض لغرض الحصول على معلومات تفصيلية دون أي تغيير في مقياس الرسم المستخدم في إنشاء الأصل كما في المخططات الورقية، موفرا أنواعاً مختلفة من النتائج، والتي يمكن استخلاصها عن طريق المجسم المرئي أو عن طريق النتائج المطبوعة ورقيا.
أوجه القصور ومشاكل المجسمات:
1. أن المشكلة الأساسية في تكوين المجسمات الرقمية هي الحجم الهائل لملفات الإنشاء والعائد إلى العدد الكبير للعناصر المكونة للمجسم والتي تتضمن الشبكات المساحية ( Meshes)، والتثليث، ونقاط التقاطعات والخطوط ومواد الإنهاء وغيرها.
2. يجب توفر المعلومات ثنائية الأبعاد الدقيقة الشاملة للمنشأ مثل المخططات الأفقية والواجهات والمقاطع والصور وغيرها ولجميع فضاءاته المرغوب إعادة تمثيلها، ومن المهم تهيئتها قبل المباشرة في إنشاء المجسم. أن النقص في معلومات بعض هذه الفضاءات يمكن أن يؤدي إلى مشاكل حقيقية يصعب حلها ولها التأثير السلبي نوعاً وكمّاً على تكوين المجسم وتفاصيله، فعلى سبيل المثال في بعض مجسمات المواقع التاريخية والتي لا يمثل معها النسيج الحضري المجاور، تظهر المباني منعزلة على أرضية فارغة من التفاصيل وكأنها واقعة في صحراء.
3. عند استخدام تقنيات معينة لإنشاء مجسمات مبنى حقيقي ضمن الموقع التاريخي، يمكن استخدام أداة المسح التلقائي لخامات مواد الإنهاء وإنتاج وتكوين المجسم من سلسلة من الصور، في مثل هذه الحالات فإنه من الصعب في كثير من الأحيان (وأحياناً من المستحيل) التقاط صور لعناصر المبنى وإلغاء العناصر غير المنتمية إليه والواقعة أمامه كالأشخاص والحيوانات والطيور والسيارات والأشجار والنباتات وغيرها، أو لعدم توفر زوايا التقاط نظرا لضيق المساحة المتوفرة لذلك.
4. أن عدم وجود تقنيات إعادة إنشاء المجسمات والقابلة للتطبيق من المسوحات مباشرة هي إحدى مشاكل إنشاء المجسمات، مع توفر عدد قليل من البرامج الخاصة لمساعدة المهندس المعماري لبناء نموذج ثلاثي الأبعاد التفاعلي استخدام مجموعة صور للمنشأ، وغالبية المتخصصين يستخدمون النمذجة اليدوية، والأدوات الهندسية العامة وبرمجيات الحاسوب العامة لإنشاء المجسمات الرقمية.
بقلم د.عماد هاني العلاف