ماذا تعني صواريخ ترامب وكيف أضحت المعادلة
استبق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مناقشات مجلس الأمن حول استخدام الكيماوي في خان شيخون، فقام بتوجيه صواريخه إلى سوريا رغم إعلانه عن عزمه مكافحة الإرهاب والتنسيق مع روسيا لمحاربته.
فمع أن مجلس الأمن الدولي استهل بيانه حول استخدام السلاح الكيماوي في خان شيخون بالقول أن لا إثبات على أن هذا القصف تم من الجو، فإن ترامب اتهم في خطابه المتلفز “الدكتاتور السوري بشار الأسد بشن هجوم مروع بأسلحة كيميائية على مدنيين أبرياء”، دون أن يأخذ بعين الاعتبار تأكيدات المسؤولين العسكريين والسياسيين السوريين بأن قواتهم لم ولن تستخدم الأسلحة الكيميائية حتى في حربها ضدّ الإرهابيين.
وجاء وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للضربة الأمريكية ضد سوريا بأنها “عدوان ضدّ دولة ذات سيادة” مطابقا للواقع وفي محله السياسي والقانوني، لأن هذه الهجمات التي شنّتها البحرية الآمريكية فجر الجمعة ضدّ مطار الشعيرات في محافظة حمص، لم تستند لأي قرار دولي، وهذا ما يشكل خرقا فاضحا للقانون الدولي.
لقد تجاوز ترامب بضرباته الأمم المتحدة ولم يعرها أي اهتمام في وقت ما زال فيه مجلس الأمن الدولي يناقش مشروع قرار تقدمت به بلاده مع فرنسا وبريطانيا حول الهجمات الكيميائية على بلدة خان شيخون في محافظة إدلب. وشكلّت صواريخ توماهوك التي أطلقتها بحريته تحديا وامتحانا لدور المنظمة الدولية.
لقد استند الرئيس الأمريكي على مزاعم واهية، حين قال في كلمة متلفزة عقب انطلاق الصواريخ باتجاه اهدافها “الليلة، أمرت بتنفيذ ضربة عسكرية محددة الهدف في سوريا على المطار الذي شن منه الهجوم الكيميائي. إن من مصلحة الأمن القومي الحيوي للولايات المتحدة منع وردع انتشار واستخدام الأسلحة الكيميائية القاتلة”، على الرغم من أنه ليس هناك من تأكيد لا من مجلس الأمن الدولي ولا من المنطمات الدولية المتخصصة على أن الجيش السوري هو من شنّ هذه الهجمات الكيميائية على خان شيخون ولا على أنها جاءت من الجو أصلا.
كان العالم ينتظر أن تنطلق صواريخ ترامب باتجاه مواقع تنظيم “داعش” والتنظيمات الإرهابية الأخرى التي طالما هدد الرئيس الأمريكي بـ”مسحها عن وجه الأرض”، إلا أنه تم توجيه هذه الصواريخ نحو مطار عسكري يستخدم في محاربة الإرهاب ومكافحته، وقبل أن تدمر هذه الصواريخ أهدافها على الأرض، سارع الإرهابيون إلى الاستفادة من وقعها لشنّ هجمات بالتزامن معها على الجيش السوري ومراكزه وطلائعه المتقدمة في ملاحقتهم في محافظات حمص والرقة وأدلب وغيرها.
يعرف ترامب تماما كما تعرف استخباراته أنه لم يبق لدى القوات الحكومية السورية أي سلاح كيميائي، منذ قررت حكومة الرئيس بشّار الأسد بالعام 2014 التخلص من هذا السلاح الذي أصبح عبئا عليها، بمساعدة روسيا وبإشراف دولي شاركت فيه الولايات المتحدة بشكمل مباشر ومكثّف.
وفيما كانت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية تقرّ بأن الأراضي الخاضعة لسلطة القوات النظامية السورية صارت خالية من أي سلاح من هذا النوع، بعدما سلّمته طوعا بسبب تحوله لعبء أثقل الاتهامات على دمشق في الغوطة، قبل ان تتوسع الشبهات إلى مناطق أخرى، سارع الإرهابيون إلى اقتناء هذه الأسلحة بمساعدة حلفاء واشنطن وربما استخباراتها، ولم يتورعوا عن استخدامها سواء ضد القوات الحكومية أوفي صراعهم مع بعضهم ومع المعارضات المتحاربة وأبقوا عليها مادة ابتزاز، دون أن تكلف واشنطن نفسها عناء اتهامهم بذلك ولا حتى مجرد إبداء أسفها لتملكهم هذا الأسلحة الخطرة، بما في ذلك عليها.
لا يمكن فصل غارات طيران التحالف الدولي بقيادة أمريكا في العراق على مدينة الموصل وما تخلفه من ضحايا بالعشرات بل والمئات بين المدنيين الأبرياء، وبين “توماهوكات” ترامب المجنحة ضد سوريا ومطار الشعيرات البائس بمقاتلاته المتقادمة، بل يمكن الربط بكل ثقة بين الأمرين، لأن هذه الضربات التي ذرت شرارات خطرة ودخانا كثيفا في المنطقة، هدفت من ضمن ما هدفت الى التغطية على ” مجازر” ارتكبها ويرتكبها التحالف الذي تقوده واشنطن في الموصل بعد الحسكة ودير الزور والفلوجة والكثير الكثير من المدن العراقية والسورية التي ما زالت أفواه الضحايا فيها شاهدة على كل ما هو آت باسم أميركا والأمريكيين وكل صواريخهم وقنابلهم العنقودية والذكية.
ربما يكون الهدف الأبعد لهذه الصواريخ هو إلقاء ظلال من الشك على أهلية الرئيس ترامب للقيام بمهامه والدفاع عن المصالح الوطنية، في وقت تتصاعد فيه التجاذبات والمنافسة بين مؤسسة الرئاسة والكونغرس في سعي ثابت من قبل أعضاء الحزب الديموقراطي، بشكل أولي، لإلصاق تهمة محاباة ترامب لروسيا وتدخلها المزعوم في الانتخابات الرئاسية لصالحه. بينما في حقيقة الأمر ينفذ ترامب سياسة أخرى تتعارض مع وعوده الانتخابية، بل يواصل العداء لروسيا ويمارس رياضة التعرض لقوانين البيئة وتفكيك القيود التي فرضها الرئيس أوباما على الشركات الكبرى عبر ولايتيه الرئاسيتين.
التدقيق في طبيعة “الصراع” المشار إليه، يقود لاستنتاج أن هناك بداية تشكل قطب جديد نافذ وبقوة في السياسة الأمريكية عماده الصقور في كلا الحزبين، “المحافظين الجدد”، بالتضافر مع أذرع الاجهزة الأمنية، لا سيما مسؤولين ومدراء سابقين في وكالة الاستخبارات المركزية.
وباستطاعة المرء استكشاف البعد “العسكريتاري” في صراع مراكز القوى في واشنطن، عند الاخذ بعين الاعتبار أن “الصقور” فيها لا يزالون من أشد مناصري مجمع الصناعات العسكرية، داخل المؤسسة وخارجها. ويمكن القول إن الضربات التي طاولت مطارا سوريا الليلة الماضية تم التحضير لها حتى قبل انتخاب ترامب وأثناء حملته الانتخابية، وإن سيناريوهاتها رسمت بعناية ومنذ وقت طويل، وإن استخدام الاسلحة الكيميائية كحجة للتدخل في سوريا اعتمد كخلفية سرّية غير منظورة في المشهد الذي بدت تتكشف ملامحه.
خلافا لتصريحاته الرنانة التي أطلقها عن التعاون مع موسكو لحلّ العديد من المسائل الدولية الراهنة، قام ترامب الليلة الماضية بتسديد “ضربة” على حدّ وصف الرئيس بوتين تضر كثيرا بهذه العلاقات ولا تساعد على تحسينها وإنقاذها من الهاوية العميقة التي وصلت إليها وتكاد تلامس قعرها.
سلسلة متواصلة من الهزائم “لحكم” ترامب أرخت بظلالها على الاداء الأمريكي العام. فحذرت أسبوعية “ذي ايكونوميست”، في عددها الأخير من أن ترامب “عالق في الرمال .. ورئاسته في حفرة” حفرها بنفسه: بدءاً بقراراته الرئاسية الاقصائية، إلى تحديه القضاء الأمريكي لتجميده العمل بقرار رئاسي يحظر دخول مواطني سبع دول عربية وإسلامية، مروراً بعثرات فريقه الداخلي وإقالة مستشاره للأمن القومي، وانتهاء بهزيمة برنامجه لاستبدال الضمان الصحي.
هناك إجماع بين أقطاب المؤسسة الأمريكية لحثّ ترامب على الاقرار بأن آليات التعامل التجاري “تختلف تماماً عن آليات الحكم”، التي تخضع للرقابة والمساءلة.
البديل الآخر، هو ما يحذر منه ويخشاه كبار المسؤولين: استشراء حالة الشلل وتبادل الاتهامات، وعجز كلا الفريقين عن استنباط “آليات حكم” بعد انكشاف الغلاف العازل لهيبة مؤسسة تستعصي على الحكم السوي..إلا على وقع قرع طبول الحرب والتنفيس عن الاحتقان الداخلي بالهروب لضرب عدو مفترض في مكان ما من زوايا الأرض.
سيريان تلغراف