الملف السوري .. صراع في ميدان الحرب وصدام في مجلس الأمن
كما احتدام المعارك على الأرض السورية، خاصة في حلب وريف حماة، فإن المبادرات والمبادرات المضادة تحتدم هي الأخرى على المسرح الدولي عموما، وعلى منصة الأمم المتحدة بشكل أدق.
ولعل ارتفاع منسوب الصراع الدبلوماسي مرتبط ارتباطا وثيقا بمجريات الميدان التي كشفت تطوراته وسياقاته العسكرية عن تحول أقرب إلى الجذري في حلب وباتجاه تموضع الفصائل المسلحة شرقي تلك المدينة، بعد أن تمكنت وحدات الجيش السوري من تحقيق انجازات كبيرة باتجاهين؛ أولهما الإحاطة بأحياء حلب الشرقية من جميع جهاتها، أي إحكام السيطرة على مخارجها ومداخلها، وثانيهما السيطرة المباشرة على طرق الإمداد وتثبيت نقاط وجود للوحدات العسكرية على مجمل تلك الطرق، الرسمية منها وغير الرسمية، ما يعني عمليا توقف وصول الدعم العسكري لتلك الفصائل الموجودة في شرق حلب وتحويل خزانها الرئيسي من شمال المدينة ومن ريف إدلب الى عبء اضافي على كل محاولة للتقدم باتجاه ذلك الحي.
وإذا كان ما يتحقق في الميدان لصالح هذا الطرف أو ذاك هو صاحب القول الفصل في دفع وتقديم مسار سياسي على آخر، فإن كثرة القرارات المقترحة من قبل الأطراف الدولية المتعددة على طاولة مجلس الأمن الدولي تشي بصعوبة الموقف وانعكاساته على الطرف الغربي تحديدا، الذي وجد نفسه أمام ما يمكن تسميته مجازا؛ مفاجأة؛ من العيار الثقيل فجرتها الدبلوماسية الروسية بوضوح بالرد على محاولات الفرنسيين تمرير قرار بشأن المساعدات الإنسانية وفحواه يضمر أبعد من ذلك ويصل إلى حدود تضمينه خطوات عسكرية، لكن اللافت في هذا الشد والجذب هو تقدم الجانب الفرنسي خطوة إلى الأمام بموازاة الأمريكيين الذين بدوا وكأنهم ألقوا بكامل أوراقهم على الطاولة من دون أن يتمكنوا من الوصول إلى أهدافهم، المضمرة والمفضوحة في آن معا، ويبحثون عن مخارج تحفظ لهم ماء الوجه، بعد تنصلهم من أكثر من تعهد، بل وتنصلهم حتى من اتفاق رسمي مع موسكو بشأن سوريا عموما والوضع في حلب بشكل خاص، وهذا ما يمنح التحرك الدبلوماسي صفة صراع إرادات نابع من ضرورة حماية مصالح هذا الطرف أو ذاك..
ومع أن المراقبين لمجريات الأحداث السياسية على المسرح الدولي لا يعولون كثيرا على ما قد تسفر عنه تلك الجهود لجهة تقليص الخسائر لدى البشر والحجر في سوريا، إلا أن بعضهم يعتقد بأهمية النظر بجدية كبيرة إلى مقترحات المبعوث الدولي الى سوريا ستيفان دي ميستورا المتعلقة باستعداده للمساهمة الشخصية بإخراج مسلحي جبهة النصرة، أو ما بات يعرف بجبهة فتح الشام، من أحياء حلب الشرقية وضمان وصولهم الى ريف ادلب، وتلك الأهمية متأتية من رد فعل الجانب الروسي عليها وإبداء الاستعداد للمساهمة بجهود فعالة لدى السلطة السورية لتنفيذ هذا المقترح، على أن العنصر الأهم الذي يحمل طابع العمل الدبلوماسي الاستراتيجي هو ما طرحه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حول الخطوة التي تلي خروج مسلحي جبهة النصرة، بتركيزه على الاستعداد للعمل لدى الفصائل المسلحة ممن تثبت انفصالها عن جبهة النصرة من جهة، ولدى الحكومة السورية من جهة أخرى، لبلورة تفاهم بين الطرفين يفضي الى تشكيل وحدات مشتركة تدير عملية الأمن في أحياء حلب الشرقية، مع ما ينطوي عليه ذلك من تبعات حول الامدادات الانسانية وتأمين مستلزمات السكان في تلك المناطق، وهذا الطرح الروسي يستند واقعيا الى ثلاثة عوامل؛ الأول مرتبط ارتباطا وثيقا بفهم موسكو لأبعاد هذه الخطوة على المستوى البعيد لجهة اعتبارها خطوة يمكن اعتمادها في نزع فتيل أزمة عدة جبهات، أما العامل الثاني فيتمثل بإرادة سياسية محورها أن حسن النية والتفاعل مع أي مبادرة أو طرح، بصرف النظر عن جهته، هو أمر يصب في خانة الدفع بمشروع الحل السياسي في سوريا، ولو على المستوى البعيد، في حين يتمحور العامل الثالث حول الإصرار الذي تبديه القيادة الروسية للعمل وفق مقتضيات القانون الدولي واحترام سيادة الدول ورفض أي محاولة للتسلل عبر المعايير الانسانية إلى جوهر سيادة الدول الأخرى.
وإذا كان المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا قد ألقى بعصاه في ميدان العمل الدبلوماسي الدولي وحرك نوعا ما المياه الراكدة فيه بطرحه هذا، فإن الطرف الآخر الرئيسي في هذه المعادلة، وهم الأمريكيون، لا يبدون متعاطفين كثيرا مع هذا الطرح، بل سعوا قدر استطاعتهم للإيحاء بمسؤولية الجانب الروسي عن كثير من التعقيدات والمشكلات، وراحوا يستحضرون إلى مفرداتهم اتهامات مباشرة لروسيا وسوريا بشأن مجريات الأحداث الميدانية في حلب، في محاولة مكشوفة لذر الرماد في عيون المجتمع الدولي وحرف أنظاره عن تنصل واشنطن من التزاماتها الدولية القانونية، أولاً مع روسيا بشأن سوريا، وكذلك التزاماتها الأخلاقية كدولة عظمى يتوجب عليها صيانة السلم والأمن الدوليين.
ومهما يكن من نتائج قد تفرزها الدبلوماسية الدولية بعد مخاضاتها الراهنة، فإن المعيار الأهم الذي أفرزته الأزمة السورية والذي تتمحور حوله جميع التطورات الحالية يتمثل في القدرة على الإمساك بزمام المبادرة، سواء أكانت هذه المبادرة بطابعها الميداني أو السياسي.
سيريان تلغراف