كوميرسانت : نظرة على أنقرة من موسكو وواشنطن
أعدت صحيفة “كوميرسانت” الروسية وWashington Times الأمريكية بحثا صحفيا سلطتا الضوء فيه على الاهتمام الدولي غير المسبوق بتركيا، ووقفتا به على الصعوبات التي تواجهها.
واستهلت الصحيفتان تقريرهما بإفراد جملة من القضايا التي تتخبط تركيا في موقفها تجاهها، وفي مقدمتها الحرب في سوريا، وأزمة العلاقات مع روسيا، ومشكلة اللاجئين في الاتحاد الأوروبي، والخلافات مع عدد من الدول الأوروبية حول جملة من القضايا بما فيها التاريخية.
كما توقف أصحاب التقرير الصحفي كذلك، عند دور أنقرة في الشرق الأوسط، وفي جنوب القوقاز، و”مهامها” في إطار حلف الناتو، علاوة عن التحولات السياسية الداخلية وغير ذلك من القضايا ذات الأهمية.
واعتبر التقرير الذي أعد بدعم من نادي “فالداي” الحواري الدولي، و”مركز واشنطن للمصالح القومية”، أن دور تركيا التاريخي والجيوسياسي والاقتصادي والثقافي، بلغ درجة من الأهمية، جعلت تجاهل الدول العظمى له مستحيلا.
وأعادوا إلى الأذهان، أن الجميع كانوا ينظرون إلى تركيا، كمثال يحتذى في الشرق الأوسط، حيث كانت جمهورية متّزنة، وامتازت عن معظم دول المنطقة بديمقراطيتها واستقرارها، فيما منح إرث أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية ما ميّز تركيا المعاصرة عن معظم بلدان الشرق الأوسط، فضلا عن امتداد أراضيها بين قارتين، بما يجعلها جسرا ثقافيا واقتصاديا وسياسيا بين أوروبا والشرق الأوسط.
وبين الميزات الأخرى التي تعزز من دور وموقع تركيا في المنطقة، أنها بلد إسلامي، مما له أن يجعلها مثالا يحتذى لمعظم بلدان المنطقة، ولا سيما بعد وصول حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي المعتدل للسلطة والذي رسخ دور تركيا كبلد نموذجي للجميع في منطقتها، وأثبت كيف يمكن لحزب ديني أن يصل إلى السلطة بالسبل الديمقراطية في بلد جمهوري، وأن يفلح في إدارة الدولة وتحقيق نمو اقتصادي في البلاد.
وبالوقوف على موقع تركيا الجيوسياسي، أشار التقرير إلى أنه يحفزها على التعاون مع البلدان الواقعة في هلالها الجنوبي، ومساعدتها، بما يخدم كذلك منع انتقال الاضطرابات منها عبر الأراضي التركية شمالا، وهذا ما عكف عليه حزب “العدالة والتنمية” من خلال الحكومات التي شكلها مذ وصوله إلى السلطة.
كما أكد معدو التقرير، أن ما حققته القيادة التركية، وتوصلت البلاد إليه في ظلها، قد أدى إلى امتصاص حدة مشكلة الإنفصاليين الأكراد بتعقيداتها، وذلك بفضل المحاولات التي بذلتها أنقرة لتطبيع العلاقات مع الأكراد داخل تركيا، وموقفها الذي اتسم بقدر أكبر من الإيجابية تجاه حكومة إقليم كردستان شمال العراق.
وبعد هذا الإسهاب في توصيف الحالة التركية وما حققته أنقرة مذ وصول “العدالة والتنمية” إلى السلطة سنة 2002، اعتبر أصحاب التقرير أن تركيا لم تعد تضطلع كما كانت بدور إيجابي في المنطقة وذلك لسببين أساسيين، أولهما يكمن في الوسائل السلطوية التي يتبناها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
كما يرى أصحاب التقرير، أن أردوغان قد استبدل كرسي رئيس الحكومة بكرسي الرئاسة، وفي نيته توسيع صلاحياته التنفيذية، فيما صار يتردد صدى اضمحلال الحريات المدنية والسياسية الأساسية في تركيا، بما هو أشد مما يعقب التعديل الدستوري.
ولفتوا النظر إلى ما تعانيه الصحافة من تضييق وكم للأفواه، فيما كانت آخر الخطوات التي يقوم بها أردوغان في إطار قمع أي رأي يرفض تركيز السلطة في يد شخص واحد، إعلانه جماعة فتح الله كولن حركة إرهابية بعد أن كانت حليفا له.
وبين الأسباب الأخرى التي أدت إلى تغيير دور تركيا حسب تقرير “كوميرسانت” و Washington Times، كانت الحرب الأهلية في سوريا واحتدامها عند خاصرة تركيا الجنوبية، وتدهور العلاقات بين أنقرة وبشار الأسد إلى حد غير مسبوق، حيث يعارض أردوغان النظام السوري بشدة، معتبرا اياه عائقا أمام باقي الدول في مكافحة ما يسمى بـ”الدولة الإسلامية”.
المشكلة الكردية في هذه الأثناء، تفاقمت من جديد، فيما ترفض أنقرة سائر أشكال التعاون مع أكراد سوريا في مواجهة “داعش” في الوقت الذي ترى فيهم الدول الأخرى القوة الفعالة الوحيدة القادرة على مواجهة الإرهاب، معتبرة اياهم جناحا مسلحا لأكراد تركيا.
الغرب، وبعد أن كان يرى في تركيا شريكا دبلوماسيا قيّما في حل القضايا الأمنية، قد تحولت على خلفية هذه المشاكل إلى مصدر للصداع، ولا سيما في ظل انتهاكات حقوق الانسان، فيما السبب الوحيد الذي يحفظ العلاقات بين الغرب وتركيا من الانحدار إلى الحضيض، يبقى في وقوف تركيا حتى الآن عائقا على طريق تدفق اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي.
وفي التعليق على ما آلت إليه العلاقات الروسية التركية، ذكّر التقرير بالتحسن غير المسبوق الذي شهدته العلاقات بين البلدين قبل عشر سنوات، رغم العداوة التاريخية والحروب المتكررة التي دارت بين الدولة العثمانية والامبراطورية الروسية، مشيرا إلى أن الحرب في سوريا ودعم أنقرة وموسكو فريقين متناحرين هناك، والقتال العنيف على الحدود السورية التركية أدى إلى موجة جديدة من البرود في العلاقات بين أنقرة وموسكو.
أما القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقات بين البلدين، فقد تمثلت في إسقاط الأتراك الطائرة الحربية الروسية العام الماضي حين دخولها لبرهة الأجواء التركية وهي في طريقها من قصف مسلحي “العصيان” السوريين.
ولفت أصحاب التقرير النظر إلى أن استطلاعات الرأي الأخيرة في روسيا تشير إلى أن الرأي العام الروسي صار يصنف تركيا إلى جانب الولايات المتحدة وأوكرانيا اللتين تهددان الأمن الروسي، فيما تشترط الحكومة الروسية على أنقرة لتطبيع العلاقات، الاعتذار عن حادث إسقاط الطائرة الحربية، وتقديم التعويضات اللازمة لروسيا وذوي الطيار.
وفي وصف موقف الدول الأخرى تجاه تركيا عموما، فقد اعتبر التقرير أن تركيا ستبقى لاعبا هاما في الشرق الأوسط بغض النظر عن مدى تعقيد العلاقات مع حكومة أردوغان، إذ تضطلع بدور غاية في الأهمية على صعيد الحد من التوتر المحيط بسوريا وانتهاء الحرب المدمرة الدائرة على أراضيها، فضلا عمّا يتوجب عليها بذله لتحقيق الاستقرار في العراق.
وفضلا عن ذلك، فلا يمكن إهمال الدور التركي على صعيد مكافحة “داعش” وسواه من الزمر الإرهابية الإسلامية، حيث تحافظ أنقرة على التوازن في المنطقة في ظل الحضور الإيراني والاسرائيلي.
واستنادا إلى جميع ما تقدم، شدد التقرير على ضرورة استمرار الدول الأخرى في إيجاد السبل اللازمة للتعاون الفعلي والحقيقي مع أنقرة، وذلك بغض النظر عن الخلافات معها، والأخذ بمخاوفها وما يشغل الرأي العام التركي تجاه قضايا تخرج عن نطاق طموحات أردوغان.
وهذا لا يعني حسب التقرير، أنه يتوجب على الغرب غض الطرف عن انتهاك الحقوق المدنية والسياسية في تركيا الذي يجهض التأثير الإيجابي لأنقرة في المنطقة، كما لا يتعين على الغرب كذلك، أن يقتصر الغرب بعلاقاته مع تركيا على التعاون لحل مشكلة اللاجئين، بل العمل معها بما يخدم إزالة عوامل الاضطراب الأخرى في الشرق الأوسط.
أما روسيا، فعليها في هذا الاتجاه، أن تبدي قدرا أكبر من الليونة في التعامل مع تركيا، والكف عن التذكير بحادث الطائرة ليلا ونهارا، إذ هي تطالب أنقرة بالكثير، وتحملها كامل المسؤولية عن الحادث، “حيث أن الطائرة قد اخترقت فعلا الأجواء التركية”، كما لا بد لموسكو وأنقرة تطبيع العلاقات في أسرع وقت ممكن، حفاظا على المصالح الكبرى لكل منهما.
سيريان تلغراف