معرة النعمان وأكلة لحوم البشر ..
شهد التاريخ الإنساني الكثير من بشاعات التعصب الأعمى وخاصة بأيدي أولئك الذين يتأبطون شرورهم بعد أن تُغلف لهم بقداسة زائفة، ثم يساقون في طريق دام إلى مملكة مزعومة للرب فوق الأشلاء.
مثل هذه الفظائع حدثت في الماضي وهي لا تزال تحدث، ولن تنتهي حتى تنتصر نوازع الإنسان الخيرة على نقائضها، وينغرس اليقين بأن الأرض للجميع، وأن التعايش بين الأديان والطوائف والملل ليس موقفا اختياريا، بل مبدأ لن تستقيم كافة موازين الحياة بدونه.
ويتعين أن يعي العقل الإنساني الجمعي أن التعصب الديني وما شابهه وباء خطير ما أن ينتشر حتى يهلك أصحابه ذاتهم، وهو قنبلة موقوتة لن يسلم منها أحد، القريب والبعيد.
ومن المفيد في هذا الصدد الوقوف أمام تعريف جامع للتاريخ لأحد المؤرخين الروس يقول إن “التاريخ ليس معلما، بل هو رقيب عتيد. هو لا يُعلم أي شيء، لكنه يعاقب بقسوة على عدم استيعاب الدروس”.
ولذلك لا يمكن للإنسانية أن تمضي قدما في طريقها من دون أن تتخلص من شرورها التي رأت وعاينت مرارا عواقبها الوخيمة، وقاست ولا تزال من ويلاتها. من هذا المنظور يمكن فهم ما يمكن وصفه بـ”تأثير المصائد” إذ أن من تكون المصيدة قدره، يكون بلا تاريخ.
وتاريخ منطقة الشرق الأوسط حافل بالعبر من كل نوع، عبر حري بها أن تتحول إلى ثقافة راسخة تنبذ العنف والتطرف والتعصب وتنحاز إلى التفتح والتسامح والرشد، وإلى اسمى القيم، وفاء للتاريخ وصونا للمستقبل.
وفي هذا الصدد قبل 920 عاما بدأت جموع غفيرة من المتعصبين في الزحف على الشرق إلى بيت المقدس خلف نداء يقول “هذا ما يريده الرب”. انطلقوا في موجات متتالية من البؤساء والفقراء بأسمالهم البالية رفقة فرسان متعطشين للدماء حاملين الصليب إلى مملكة الرب.
فعلوا ذلك لأن البابا أوربان الثاني عنّ له ذلك، فكان أن انساقت إلى إحدى أحلك صفحات التاريخ آلاف الجموع من النساء والرجال والأطفال في حرب من ثماني حملات، تواصلت أربعة قرون وحدثت فيها مجازر لا حدود لوحشيتها وهمجيتها، وكل ذلك كما يزعم مشعلوها باسم الرب.
من بين أسوأ الأحداث وأشدها رعبا في تلك الحروب البغيضة، ما شهدته مدينة معرة النعمان في سوريا في 12 ديسمبر/كانون الأول عام 1098.
لقد وصل إليها الصليبيون وقد اعمى التعصب بصائرهم فحاصروها لأسابيع، ثم تفاوض أحد قادتهم مع أهلها وتعهد لهم بالأمان مقابل الاستسلام، إلا أن هؤلاء ما أن دخلوا المدينة حتى ارتكبوا إحدى أكبر المذابح في تاريخ تلك الحملات المرعبة.
الأسوأ أن هؤلاء الصليبيين الذين جاءوا باسم الرب، كما يأتي دائما جميع المتطرفين من كل الملل، خرقوا في معرة النعمان المحرمات ولم يكتفوا بسلب الحياة من ضحاياهم، بل والتهموا لحومهم.
كتب “Alberti Aquensis” ، وكان شارك في تلك الحملة، يصف ما حدث: “لم تتوان جماعتنا عن أكل قتلى الأتراك والعرب، بل وكانت تأكل الكلاب أيضاً”.
وسجل المؤرخ رادولف كاين بعد تسع سنوات مشهدا بالغ الفظاعة عن أحداث هذه الواقعة الوحشية، مفاده أن “بعض الناس قالوا إنهم عانوا من نقص في الغذاء، وأنهم طبخوا البالغين من المسلمين في القدور، وقاموا بغرس أسياخ في الأطفال وشويهم”.
أما المؤرخ فولتشر أوف تشارترز الذي شارك في تلك الحملة، فقد ترك وصفا لا حدود لبشاعته وهمجيته: “يمكنني القول بقشعريرة إن الكثير من أناسنا يقودهم جوع مجنون، انتزعوا قطع اللحم من أرداف القتلى العرب وقاموا بشويها، ولم ينتظروا إلى أن تستوي بشكل كاف، والتهموها بطريقة متوحشة”.
كل ذلك كرسه الأدعياء باسم الرب، فحملت جموع غفيرة سيوفها وحرابها وجنونها، وانطلقت في رحلة طويلة حاقدة تحولت خلالها حياة الآمنين في الطرف الآخر من الدنيا إلى جحيم لا يطاق.
لقد انطلقت تلك الجموع لتقتل وتدمر وترتكب الفظائع التي يشيب لهولها رأس الرضيع من دون أن يندى لها جبين، وكل ذلك باسم الرب، فكيف يمكن أن يُظهر الإنسان توحشه مجددا بعد أن قطع شوطا طويلا في درب الحضارة؟ كيف له أن يفعل ذلك والتاريخ مفتوح بين يديه؟
سيريان تلغراف | محمد الطاهر