ماذا بعد سورية ؟
تهيأت كل الأسباب لتكون سوريا منعطفا هاما فيما يسمى بالربيع العربي، وبات هذا البلد يحظى بنصيب الأسد من الأضواء متجاوزا الانبهار ببواكير هذه “الانتفاضة” العارمة.
وربما لن يقف التاريخ طويلا أمام مأساة البوعزيزي وعربته البائسة، وسيتلعثم وهو يسرد أحداث مصر، ويصف بكلمات متقاطعة مرتبكة انهيار ليبيا وذوبانها في الفوضى، وحين يمر على اليمن سيصف في وجوم الزلزال وتوابعه هناك، لكنه حين سيصل إلى سوريا سيقف طويلا على أبوابها.
هذا ما سيفعله التاريخ الأصلي، ونعني به الطبقة الأولى التي رصفتها الأحداث كما هي، لا الطبقات الأخرى التي ستتوالى حاجبة بعضها البعض بحسب مصالح أصحابها وأهوائهم.
توقفت أحجار الدومينو المتساقطة في المنطقة نتيجة ما يسميه البعض بالربيع العربي وما يصفه البعض الآخر بالجحيم العربي في سوريا لأسباب متشابكة ذاتية وإقليمية ودولية لا يمكن فصلها أو تجزئتها، ففي المحصلة قُيض لها أن تجتمع فسلمت دمشق من مصير العواصم الأخرى في الدول المماثلة، ولكن بثمن باهظ في الأنفس وتدمير وحشي لا حدود له.
مع كل ذلك لا تزال الدول الغربية ودول المنطقة الحليفة تصر على أن العقبة الكأداء التي تمنع الربيع العربي في سوريا من الإزهار هي بقاء النظام، كما لو أن تونس وليبيا ومصر واليمن انتقلت إلى النعيم بعد تغيير أنظمتها وصارت واحات للديموقراطية والأمن والاستقرار، كما لو أن حمامات الدم جفت في ليبيا وتوقفت معاول الهدم ونهض الإعمار وباتت هي ومثيلاتها مقصدا للسياح وأمثلة يحتذى بها!.
بغض النظر عما يروج له، فقد حلت السنوات العجاف بدول المنطقة وتبددت آمال الحياة الرغيدة والرخاء والأمن والديموقراطية والعدالة، ومع ذلك لا يبدو أن الدول العربية الأخرى التي لم تعصف بها رياح التغيير قد فهمت الدرس مما يجري حولها فها هي تمضي مغمضة العينين غير آبهة بالخطر.
ولا يلوح في أفق هذه الدول الممتدة من الأردن إلى السعودية ودول الخليج الأخرى أي إصلاح وتغيير ملموسين يحفظان توازنها ويبطلان مفعول الألغام المزروعة بداخلها، ولا سياسات جديدة أكثر حكمة تبتعد عن النظرة الطائفية الضيقة والأساليب العنيفة بل هي تعمل جاهدة على صب الزيت على النار في أزمات دول الجوار.
لا يريد البعض أن يرى الواقع كما هو بل كما يشتهيه، وهنا يكمن الداء، ولا أحد يريد الاعتراف بجوهر المشكلة وساسة المنطقة تلهيهم الأعراض عن الأسباب.
من الأجدى أن نعرف واقعنا جيدا كي نتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فدولنا عبارة عن كيانات هشة بجلد صلد، مهما علت عقيرتنا بغير ذلك، وهي قابلة للعطب ويمكن أن يتمزق هذا الجلد المهيب المحصن بالقوة العسكرية والأمنية أو بخزائن عائدات النفط والغاز بانفجار دملة واحدة.
وبدلا من أن تعيد الدول العربية، المحظوظة حتى الآن، النظر في مؤسساتها وقوانينها وتعمل على تقوية جبهتها الداخلية طولا وعرضا بالعدالة وبالتسامح وبالتوافق وبالمشاركة ليكون وراء الجلد الخارجي جسد صلب يتحمل الصدمات العنيفة، نرى عددا منها يرسل الجيوش والأسلحة والأموال لحل أزمات متفجرة معقدة خارج الحدود متوهما بذلك أنه سيكون في موقف أفضل وسينجو بمعالجة حرائق الآخرين كما يحلو له ولحلفائه الكبار.
في كل الأحوال كان من الأولى لهذه الدول أن تطفئ النيران المشتعلة في جوارها لا أن تزيد في إضرامها، فظروف المنطقة المتشابكة والمتصلة تجعلها هي الأخرى عرضة للمصير ذاته، وتوهم القدرة على إطفاء حريق بإلقاء المزيد من الزيت والحطب ليس فقط عبث، بل وبعواقب وخيمة مجانية.
سيريان تلغراف | محمد الطاهر