الناتو وانتحار المنطق
عكست التصريحات الأخيرة لأمين عام حلف الناتو حالة من التصميم على المضي قدما في تجاهل مصالح أي قوى خارج نطاق الحلف.
تصريحات ينس ستولتنبرغ بخصوص تركيا وسوريا لفتت أنظار المراقبين أيضا، عندما اعتبر أن “انتهاكات المجال الجوي التركي من قبل الطيران الروسي هي انتهاك لأجواء الحلف”.
وإذا توخينا الدقة، فإن تصريحات الناتو هذه لا تعني إلا أن وجود روسيا في منطقة الشرق الأوسط يشكل انتهاكا لمصالح الحلف.
وإذا نظرنا بشكل أشمل، فإن الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة عمليا، لا يرغب في وجود روسيا من الأساس. وفي حال أصبحنا أمام الأمر الواقع، ولم يستطع هذا الطرف أو ذاك التخلص من هذا “الشريك الروسي المتعب”، فعلينا أن نحرص على وجود روسيا ضعيفة ومهلهلة، وبعيدة عن أي نفوذ أو تأثير.
من الواضح أن الناتو تلقف “الحالة التركية المستعصية” ليتخذ منها درعا جديدا في التلاعب بالأمن الدولي عموما، وبالأمن الأوروبي، بل وبإمكانية استخدام أزمات الشرق الأوسط لمد نفوذه العسكري المباشر، سواء في سوريا أو في ليبيا. أو في أحسن الأحوال، يمكنه دعم وحماية قوى ما ستقوم بالمهام العسكرية المباشرة.
من جهة أخرى، من الصعب أن نتصور أن تركيا كان بإمكانها القيام بخطوتها “الغريبة والخطيرة”، بإسقاط القاذفة الروسية، من دون التأكد من موقف الناتو الداعم لها. وهو ما ظهر مباشرة بعد أن قام سلاح الجو التركي بفعلته، التي اعتبرتها القيادة الروسية خيانة وضربة في الظهر، وهو ما قيل تحديدا على لسان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فأعلنت الولايات المتحدة دعمها لسياسة أردوغان العدوانية تجاه روسيا، بينما أعلن الناتو أن تركيا عضو في الحلف وستتلقى الدعم اللازم في حال أي عدوان روسي ضدها. لقد صرح الناتو بذلك على الرغم من أن موسكو أعلنت على الفور بأن ردها على العدوان التركي لن يكون عسكريا، لأنها ليست بحاجة إلى ذلك. وهو ما يعني أن الناتو يفترض سيناريوهات ويقوم هو نفسه بالرد عليها من أجل بلبلة الرأي العام العالمي، وخلط الأوراق السياسية والأمنية في أوروبا والشرق الأوسط، ثم توجيه نفس هذا الرأي العام في الاتجاه الذي يخدم مصالح الحلف وواشنطن ويشيع حالة من العداء ضد روسيا ومصالحها، سواء في أوروبا أو في الشرق الأوسط.
في الحقيقة، فقد رأى نائب وزير الدفاع الروسي أناتولي أنطونوف أن حلف الناتو يسعى إلى بناء علاقات مع روسيا من موقع القوة. واعتمد أنطونوف على عدة أسباب:
-الحلف يدعو إلى إحياء الحوار مع موسكو من أجل إضفاء الشفافية على النشاطات العسكرية.
-الحلف يدعو في الوقت نفسه إلى ردع روسيا وتقييد حركتها.
-الحلف يدعو إلى الاستمرار في التسلح وزيادة نفقات الدفاع لمواجهة “العدو الروسي”.
-الحلف يرى أن من حقه الطبيعي التوسع شرقا نحو الحدود الروسية.
-حملات إعلامية ممنهجة متزامنة مع استفزازات عسكرية وأمنية ضد روسيا.
هذه النقاط الخمس لا تعكس فقط ما يراه نائب وزير الدفاع الروسي بأن الناتو يسعى إلى بناء علاقات مع روسيا من موقع القوة، بل تعكس القاعدة الفكرية والعقائدية للحلف الذي يرى أن من حقه أن يتحرك كما يشاء، انطلاقا من أن الكرة الأرضية بالكامل هي منطقة نفوذه، وأن لا مصالح أخرى سوى مصالح أعضائه، ومصالح قيادته الأمريكية.
هذا المنطق الغريب والمثير للسخرية، في بداية القرن الحادي والعشرين، حيث لا توجد حرب باردة ولا صراع أيديولوجي بالمعنى الكلاسيكي، يكاد يعكس الإصرار الغريب لحلف الناتو بقيادة واشنطن على تدمير منطق العالم، وكل توازنات الأمن في أوروبا والشرق الأوسط والكثير من المناطق الأخرى التي يحاول الحلف أن يتسلل إليها بشتى الطرق.
الناتو والولايات المتحدة يواصلان هذه الممارسات، ويستخدمان كل الأسباب والمسوغات الممكنة وغير الممكنة، بما فيها تداعيات الإرهاب الدولي، للتأكيد على مصالحهما من جهة، وعلى عدم وجود أي مصالح لأي طرف آخر. الأمر الذي يمكنه أن يثير الكثير من المشاكل والأزمات غير محمودة العواقب.
سيريان تلغراف | أشرف الصباغ