تركيا وانفصام الأقوال والأفعال بعد أسبوع من المواجهة مع روسيا
تؤكد أنقرة أنها تأسف لحادثة إسقاط القاذفة الروسية وتريد تطبيع العلاقات مع موسكو، لكنها ترفض الاعتذار وتعتمد على حزمة من الإجراءات غير المعلنة للضغط على موسكو.
وسبق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تعهد للناخب التركي الذي أكد مؤخرا ثقته بحزب العدالة والتنمية الحاكم، بمعالجة العلاقات الثنائية مع موسكو، إذ أعلن أنه يعول كثيرا في هذا السياق على قمة المناخ العالمية في باريس، معبرا عن أمله في عقد لقاء ثنائي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
لكن بوتين حطم تلك الآمال ورفض لقاء أردوغان في باريس أو في أي مكان آخر، طالما ترفض أنقرة تقديم الاعتذار على حادثة إسقاط الطائرة الروسية.
وأظهرت قمة باريس بوضوح أن للرئيس الأمريكي باراك أوباما دورا ولو كان غامضا، في الأزمة الحالية في العلاقات الروسية-التركية.
وفي هذا السياق عقد الرئيس الأمريكي على هامش القمة لقاءين منفصلين مع بوتين وأردوغان، تناول خلالهما حادثة إسقاط القاذفة الروسية.
وخلال المحادثات مع بوتين الاثنين 30 نوفمبر/تشرين الثاني، أعرب أوباما عن أسفه للحادثة، لكنه في الوقت نفسه اشترط رحيل الأسد لإطلاق عملية الانتقال السياسي في سوريا. كما تناول اللقاء بين الزعيمين موضوع مكافحة الإرهاب، دون أن تعلن في أعقابه أي نتائج معينة.
ومن اللافت أن الكرملين أكد بعد يوم من لقاء بوتين-أوباما: “من السابق لأوانه أن نقول أن يوم أمس ساعدنا بشكل من الأشكال في الاقتراب من تشكيل تحالف موحد (لمكافحة الإرهاب)”.
وخلال لقاء أوباما وأردوغان في باريس يوم الثلاثاء 1 ديسمبر/كانون الأول، كانت حادثة إسقاط القاذفة الروسية في صلب الاهتمام مرة أخرى، إذ أكد الرئيس التركي أنه يجب تسوية الأزمة بالسبل الدبلوماسية، فيما دعا الرئيس الأمريكي روسيا وتركيا إلى التركيز على محاربة “العدو المشترك” في إشارة إلى تنظيم “داعش”.
لكن من أين يمكن أن يأتي أي جهد مشترك في هذا المجال في الوقت الذي تصر فيه واشنطن على رفض أي نوع من التنسيق العسكري الفعلي مع موسكو؟ فبعد أن دخلت أنقرة على الاتفاق الموقع بين موسكو وواشنطن حول سلامة التحليقات في سوريا بإسقاطها القاذفة الروسية في أجواء سوريا ادعت أنها تجهل تبعية الطائرة الحربية، في الوقت الذي أكد فيه الجانب الروسي على أنه سلم الجيش الأمريكي مسبقا باعتباره ممثل التحالف الدولي الذي تشارك فيه تركيا، جميع المعلومات حول الغارات الروسية المخطط لها في ريف اللاذقية الشمالي في يوم إسقاط القاذفة (يوم 24 نوفمبر/تشرين لاثاني).
وفي هذا السياق، تبدو تصريحات الكرملين الأخيرة غير مثيرة للدهشة، إذ أكد على لسان الناطق باسمه دميتري بيسكوف أن ” الظروف يبدو أنها لم تكتمل بعد لتعامل عملياتي حسب رأي شركائنا”.
وسبق للمندوب الأمريكي لدى حلف الناتو دوغلاس ليوت أن قال إن الظروف الحالية ليست مواتية لتشكيل تحالف جديد لمحاربة الإرهاب بمشاركة موسكو.
وربط الدبلوماسي الأمريكي استحالة تشكيل مثل هذا التحالف في الوقت الراهن باختلاف أهداف البلدين في سوريا.
وقال خلال إيجاز صحفي عقده عبر الهاتف الاثنين 30 نوفمبر/تشرين الثاني: “يكمن هدفنا في إلحاق الهزيمة بتنظيم “الدولة الإسلامية”، أما هدف روسيا فيتمثل في دعم النظام السوري في معركته ضد المعارضة”.
كما أصر المسؤول الأمريكي على أنه لا علاقة للولايات المتحدة وحلف الناتو بما اتخذته أنقرة من قرارات سيادية بشأن التصدي للطائرة الحربية الروسية.
وتشير كل هذه التصريحات إلى أن واشنطن على الرغم من دعواتها إلى نزع فتيل التصعيد بين موسكو وأنقرة، تحاول في حقيقة الأمر، استغلال حادثة إسقاط القاذفة الروسية لتحقيق أهداف خاصة بها في سوريا، ولا علاقة لتلك الأهداف بتوحيد الجهود في محاربة “داعش”.
تركيا ترفض الاعتذار لروسيا على الرغم من عجزها عن إثبات اختراق أجوائها
يأتي رفض بوتين عقد لقاء مع أردوغان على هامش قمة باريس، بعد فشل الرئيس التركي في الاتصال هاتفيا بنظيره الروسي. ويشترط بوتين لاستئناف الاتصالات أن تقدم أنقرة اعتذارا رسميا عن إسقاط القاذفة، فيما ترفض الحكومة التركية ذلك قطعيا، على الرغم من عجزها عن تقديم أدلة تثبت اختراق القاذفة للأجواء التركية قبل إسقاطها.
كما سبق لموسكو أن أعربت عن دهشتها من لجوء أنقرة مباشرة بعد إسقاط الطائرة إلى الناتو، وكأنها تبحث عن الحماية، بدلا من إقامة اتصال بالجانب الروسي. وأكد الناتو دعمه لتركيا كأنها هي التي تعرضت لاعتداء، أما أنقرة فأصرت على حرصها على الاحتفاظ بعلاقاتها الاستراتيجية مع موسكو!
وعلى الرغم من مرور أسبوع على الحدث المأساوي، تبقى تصريحات القيادة التركية متناقضة. وفي مقابلة مع قناة “سي ان ان” الأمريكية أكد أردوغان على اعتزازاه بالعلاقات الثنائية مع روسيا، ومن ثم تطرق إلى احتمال وهمي لإسقاط طائرة حربية تركية من قبل منظومة “إس-400” للدفاع الجوي التي نشرتها موسكو في سوريا للدفاع عن طائراتها، مؤكدا أن أنقرة ستتعامل مع مثل هذا الحادث باعتباره عدوانا عليها.
وكان أردوغان يلقي عدة كلمات بشكل شبه يومي منذ إسقاط الطائرة الروسية، وهو يجمع في كل تصريح بين الدعوة إلى تسوية الأزمة وتجاوز الخلاف من جهة، وتوجيه أصابع الاتهام إلى موسكو وحدها، من جهة أخرى. أما حكومة أردوغان فتؤكد استعدادها لاستئناف الحوار مع موسكو، بشرط أن تبدي الأخيرة المبادرة إلى ذلك.
وعلى الرغم من تأكيدات الحكومة التركية أنها لا تخطط للرد اقتصاديا على العقوبات الروسية ضد أنقرة، إلا أن وسائل إعلام قد تحدثت عن إجراءات تركية غير معلنة، مثل إثارة عوائق أمام السفن الروسية التجارية التي تمر بمضيقي البوسفور والدردنيل، أو عن ظهور غواصة تركية ومرورها على بعد مئات الأمتار من سفينة نقل عسكرية روسية في الدردنيل.
ويبدو أن الجهود التي تزعم تركيا أنها تبذلها لمعالجة القضايا في علاقاتها مع موسكو، وصلت إلى طريق مسدود، في ظل تكاثر التصريحات الرسمية المتناقضة وانعدام أي مساع تركية حقيقية لربط الأقوال بالأفعال، بموازاة إصرار موسكو على تقديم تركيا اعتذارا رسميا عن إسقاط القاذفة.
سيريان تلغراف