عرفات .. زعيم مثير للجدل حتى بعد الممات
ما زالت سيرة حياة وممات الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات مثيرة للجدل. وتفتقد الساحة الفلسطينية إلى شخصية يجمعون عليها رغم كل ما أثير وسيثار عن سياسات عرفات ودوره.
وبعد 11 سنة على رحيله يطرح الفلسطينيون أسئلة كثيرة بعضها افتراضي عن حياته، وكيفية تصرفه في بعض المواقف لو كان حيا.
ومن الطبيعي أن يثير الفلسطينيون أسئلة عن قاتل زعيمهم ورئيسهم الذي تصدر مسيرة الثورة الفلسطينية منذ العام 1967 حتى وفاته في عام 2004.
وفي ظل غياب الشخصية “الكاريزمية” الجامعة بعد رحيله فبديهي أن تطرح تساؤلات عن القرارات والإجراءات التي كان يمكن أن يتخذها عرفات في قضايا مثل المفاوضات مع الإسرائيليين، وموضوع توسع الاستيطان، وبناء الجدار العازل. وكيف كان يمكن معالجة ملف الانقسام الفلسطيني؟، وهل كان يمكن أن يقبل عرفات بسلطة من دون سلطة على الأرض، أو التنسيق الأمني؟. وكذلك ما هي ردة الفعل في الضفة على العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة وتدمير القطاع وحصاره؟
وتبرز زعامة عرفات لكل الشعب في داخل الوطن وخارجه بطرح أسئلة عن موقف عرفات فيما لو كان حيا من أزمة مخيم اليرموك وما جرى مع فلسطينيي سوريا؟ وعن تشريد فلسطينيي العراق في أصقاع الدنيا عقب الحرب الأمريكية على العراق وما أحدثته من فوضى وحرب طائفية طاحنة؟ وأخيرا ما هو موقف عرفات من الأحداث في المنطقة العربية عقب الحريق الهائل في سوريا والعراق وليبيا؟
بروز عرفات على الساحة الدولية
لا يبعث تشعب الأسئلة وكثرتها على الاستغراب، فياسر عرفات كان قامة كبيرة باعتراف، أنصاره وأعدائه، واستطاع أن يفرض ذاته على المشهد الفلسطيني بعد نكسة يونيو/حزيران، وتعداه ليصبح رمزا عربيا مع فشل الأنظمة التقليدية، ليتحول لاحقا إلى واحد من أهم رموز النضال الوطني من أجل الاستقلال على الصعيد العالمي.
واختلف الفلسطينيون مع عرفات لكنهم لم يختلفوا عليه. وطوال 35 عاما قاد عرفات منظمة التحرير الفلسطينية، بعدما رفع دور حركته “فتح” كثيرا عقب العمليات العسكرية التي أشعلت الثورة الفلسطينية في عام 1965، وعقب معركة الكرامة في عام 1968 بات عرفات زعيما مطلقا للفلسطينيين، على حساب القيادات التقليدية، وحركة القوميين العرب.
بداية الخلافات كانت عن دور عرفات في أحداث الأردن في عام 1970 وخروج المقاتلين عقب أيلول الأسود. وبعدها فجر عرفات مفاجأة من العيار الثقيل مع تبني البرنامج المرحلي ذي النقاط العشر لمنظمة التحرير الفلسطينية 1974، حينها تشكلت جبهة الرفض من عدد من التنظيمات.
بعدها في ذات العام برز عرفات عالميا في خطابه الشهير من منبر الأمم المتحدة وكسب تأييدا دوليا واسعا بعد عبارته المشهورة” لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي”.
ويعد الوجود المسلح في لبنان من أهم تجارب منظمة التحرير، ومع تستطير صفحات مضيئة فإن التجربة انتهت عمليا في عام 1982، وخروج الفلسطينيين من بيروت بعد صمود دام نحو ثلاثة أشهر، ليعود أيلول مع وعد أسود للفلسطينيين بمجازر مخيمي صبرا وشاتيلا الوحشية.
حينها بدأت الحقبة الأكثر حلكة في تاريخ عرفات، فمن تشتت القوات الفلسطينية وتوزعها ما بين اليمن وتونس والجزائر والسودان، إلى الانشقاق الكبير في منظمة فتح، إلى الاقتتال بين الاخوة غادر آخر من تبقى من القوات المؤيدة لعرفات لبنان من طرابلس إثر حصارها من قبل المنشقين عن فتح، وفصائل فلسطينية أخرى بدعم سوري واضح.
وفي السنوات العشر عقب الخروج من بيروت نشبت مشكلات جمة مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وعاد عرفات للمرة الأولى إلى عمان بعدما غادرها في 1970، ووقع اتفاق عمان مع الملك الراحل الحسين بن طلال، وهو ما أثار الجدل مرة أخرى حول سياسات عرفات.
ومع ضعف الاهتمام بالقضية الفلسطينية بعد التراجع الكبير في العمل المسلح أعادت الانتفاضة الأولى 1987 الاهتمام بالشأن الفلسطيني إلى نصابها بعد شهر من قمة عمان التي أهملت القضية الفلسطينية وكان عرفات الحاضر الغائب فيها.
الحقبة السوداء الأولى تعمقت بعد حرب الخليج الأولى في 1990 وما تلاها عندما دفع الفلسطينيون ثمن ما فُسر على أنه وقوف عرفات إلى جانب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في احتلال العراق.
التسوية السياسية
ولعل أهم ما ميز عرفات هو القدرة على المناورة واشتقاق برامج جديدة تتكيف مع الظروف السياسية الطارئة، لكن طروحاته أثارت الجدل والخلافات في داخل “فتح” ومنظمة التحرير.
ففي العام 1988 استطاع عرفات جذب عدد من التنظيمات الفلسطينية، بعد إنهاء خلافاته معها، وعقد المجلس الوطني الفلسطيني دورة في نوفمبر/تشرين الثاني وتبنى “إعلان الاستقلال” للدولة الفلسطينية على التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف.
وفي ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته ذهب عرفات، في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف، إلى الاعتراف بإسرائيل، ودان الإرهاب بكافة أشكاله، وأطلق مبادرة سلام فلسطينية تدعو إلى حق دول الشرق الأوسط في الوجود بما فيها فلسطين وإسرائيل وجيرانها في العيش بسلام. لتنطلق لاحقا مفاوضات سرية مع وفود إسرائيلية.
وبعدما وضعت حرب الخليج أوزارها انطلق مؤتمر مدريد في 1991، وبدا واضحا محاولة تحييد منظمة التحرير بفرض وفد أردني فلسطيني مشترك، واستطاع عرفات قيادة دفة المفاوضات بالتأثير على أعضاء الوفد، لكنه فتح في ذات الوقت مفاوضات سرية أفضت إلى اتفاق أوسلو في سبتمبر/ أيلول 1993.
الاتفاق لاقى انتقادات واسعة وتسبب في شرخ كبير لكنه مكن عرفات من العودة إلى فلسطين.
ورغم تتالي الاتفاقات المجحفة فإن التاريخ يسجل لعرفات رفضه التنازل عن قضيتين أساسيتين وهما القدس وموضوع اللاجئين ما أدى إلى افشال مؤتمر كامب ديفيد في يوليو/ تموز 2000 رغم الضغوط الهائلة من الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، وزعماء عرب.
عرفات وغياب البديل الجامع
ولا يختلف فلسطيني بأن عرفات كان داعما قويا لانتفاضة الأقصى، وأي أعمال تصب في مصلحة انتهاء الاحتلال الإسرائيلي، وهو إن لم يفعل ذلك علانية فإن التاريخ كشف بما لا يدع مجالا للشك أنه غض النظر أو دعم من الخلف استهداف الجنود الإسرائيليين من قبل أجنحة المقاومة المختلفة.
ورغم إطباق الحصار عليه من قبل أرييل شارون بدعم من الرئيس الأمريكي جورج بوش ظل عرفات الرقم الصعب في المعادلة الفلسطينية، وصمد حتى النهاية في المقاطعة في رام الله، رغم ظروف الحصار المحكم في ظل صمت وتواطؤ عربي ودولي، ليخرج منها ويعود بعدما فارق الحياة.
وحظيت مواقف عرفات الأخيرة الرافضة تقديم مزيد من التنازلات في قضايا جوهرية، وصموده حتى آخر نفس بإجماع فلسطيني نادر شمل ألد أعدائه السياسيين.
وواضح أن أسئلة الفلسطينيين عن قتلة عرفات، وكيف يمكن أن يتصرف قائدهم في الظروف الحالية، تظهر جليا عدم قدرة أي زعيم فلسطيني على شغل الفراغ الذي خلفه عرفات حتى بعد 11 سنة على رحيله.
سيريان تلغراف | سامر إلياس