أوروبا واللاجئون .. على نفسها جنت براقش
تُعد أزمة اللاجئين الحالية إحدى أكبر وأعقد حالات الطوارئ الإنسانية في العصر الحديث، لكن مقدماتها ظهرت قبل نحو قرن من الزمان.
ففي عام 1916 وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بهزيمة الدولة العثمانية، وقع الدبلوماسيان الفرنسي فرانسوا بيكو والبريطاني مارك سايكس اتفاقية سرية لتقاسم منطقة الهلال الخصيب بين بلديهما، ما أوجد دويلات وكيانات هشة، سياسية في المشرق، أصبحت منذ ذلك الحين مسرحا دائما للخلافات والنزاعات.
غير أن العالم العربي كان شاهدا ولأول مرة في عام 2013، على ظهور تنظيم “داعش” أو ما يسمى “الدولة الإسلامية”، الذي لم تعهد لوحشيته المنطقة من قبل مثيلا، واستيلائه على جزء كبير من العراق وسوريا.
وقد رسم التنظيم استراتيجيته الكبرى في العراق وسوريا، إضافة إلى الشحن الطائفي وادعائه تمثيل السنة وتكفيره الآخرين، عبر إعادة النظر في الحدود، التي رسمتها اتفاقية سايكس- بيكو. هذه الحدود، التي أقيمت بهدف إضعاف وتقسيم الدول العربية، وكانت في العقود الأخيرة سببا في إفشال مشروع الوحدة العربية القومية، التي لعبت فيه الدول الغربية الدور الأكبر بانتهاجها سياسة التدخل في شؤون العالم العربي على مدى سنوات طويلة، ومحاربتها الأنظمة العلمانية، التي لم تتعاون برأيها معها بما فيه الكفاية.
ونحن نجد الآن عواقب هذه السياسة القصيرة النظر، فالنيران تلتهم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والدول القومية تتشتت إلى مناطق نفوذ قبلية وعرقية وطائفية.
فهذه ليبيا تغرق في أتون حرب أهلية ضارية، بعد قيام الطائرات الفرنسية والبريطانية بقصفها عام 2011، والإطاحة برأس الدولة معمر القذافي. وهاهو العراق يحارب على أرضه مسلحي “داعش” بعد إسقاط الولايات المتحدة نظام صدام حسين عام 2003. أما ملايين السوريين فيفرون من الحرب الدموية، التي سعرتها الدول الغربية في بلادهم منذ خمس سنوات بهدف التخلص من الرئيس بشار الأسد.
غير أن سياسة التدخل تؤكد أن الدول الغربية تعمل انطلاقا من مصالحها الذاتية، وأحيانا من مصلحة بضعة الأشخاص فيها، وليس انطلاقا من القيم الديمقراطية، التي تسوِّق لها.
والأسوأ من ذلك هو أن ركض هذه الدول وراء منفعتها وتجاهلها التام لمسؤولياتها كدول رائدة في العالم قد أسهم بقسط كبير في نشوء “داعش”، وفي تقويته، لا سيما عندما سحب الرئيس الأمريكي باراك أوباما من العراق القوات الأمريكية للإيفاء بوعوده الانتخابية، مخلفا وراءه الفوضى والخراب، ومخليا الميدان للتنظيم الإرهابي ليجول ويصول كيفما شاء.
بل إن واشنطن لم تستطع مساعدة العراق في تشكيل حكومة تستوعب التكتلات السياسية المختلفة، وتحل المشكلات المزمنة في هذا البلد، وبدلا من ذلك أثارت موجة من النشاط الإرهابي والصراعات الطائفية، التي أودت بحياة عشرات الألوف من الناس.
وإضافة إلى العراق، فإن إرهابيي التنظيم يكتسبون تجربتهم القتالية خلال حرب أخرى، تورط الغرب فيها – هي الحرب في سوريا.
وعلى الرغم من مآسي “الربيع العربي” الدامي، التي حرضت عليه الدول الغربية، فإنها لا تزال تصرخ، محاولة إقناع العالم بأنها إنما فعلت ذلك لنشر الديمقراطية القائمة في ربوعها.
لكن ملايين العرب، الذين لم ينعموا بالفردوس الموعود في بلادهم، قرروا أن يجربوا على أنفسهم ديمقراطية النباح، التي تروج لها دول الغرب، ولكن في بلاد الغرب. وأوروبا تلقت هدية ثمينة هي اللاجئون، ووضعتها أمام تجربة لا سابق لها ستغير وجه القارة العجوز، وعلى نفسها جنت براقش.
سيريان تلغراف | حبيب فوعاني