الوهن يصيب سلاح العقوبات الغربية ضد الدول
يثبت قرار الاتحاد الأوروبي تعليق العقوبات المفروضة على بيلاروس فشل سلاح الحصار والعقوبات، ويعيد القرار إلى الأذهان إخفاق الغرب في تحقيق أهدافه منذ الحرب العالمية الثانية.
الاتحاد الأوروبي عزا رفع العقوبات عن مينسك إلى إفراج السلطات عن جميع المعتقلين السياسيين، وأدرج الخطوة في سياق تحسن العلاقات بين الطرفين، واللافت أن القرار يشمل إلغاء العقوبات المفروضة على الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، الذي طالما دأب الغرب على وصفه بـ”آخر دكتاتور” في أوروبا، بعد نحو أسبوعين من إعادة انتخابه رئيسا للمرة الخامسة وحصوله على قرابة 84 في المئة من أصوات الناخبين “من دون مفاجأة أو قمع”، حسب التصريحات الألمانية.
ويطرح تعليق العقوبات على بيلاروس، وقبلها تخفيف العقوبات المفروضة على كوبا منذ أكثر من 60 عاما أسئلة حول جدوى العقوبات الاقتصادية؟، وأسباب اللجوء إليها؟، ومن هو الطرف الأكثر تأثرا بهذه العقوبات؟.
وتكشف تصريحات وزير الخزانة الأمريكي جاكوب ليو، عن جوانب مهمة للإجابة على هذه الأسئلة، فبعد تخفيف إضافي للعقوبات على كوبا منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، قال إن “العلاقات الأقوى والأكثر انفتاحا بين البلدين من شأنها خلق فرص اقتصادية لكل من الأمريكيين والكوبيين على حد سواء”، وزاد أن تبني هذه الإجراءات “سيساعد الشعب الكوبي على تحقيق الحرية السياسية والاقتصادية الضرورية لبناء كوبا ديمقراطية ومزدهرة ومستقرة”.
ويتضح الكذب الأمريكي والفشل الذريع إذا عدنا إلى أن أسباب الحصار على كوبا الذي بدأ بعد انتصار الثورة الشيوعية، واعتلاء فيديل كاسترو سدة الحكم، كان يهدف إلى مساعدة الشعب الكوبي في تغيير الحكم.
وعمليا، فإن سلاح المقاطعة والعقوبات الاقتصادية يستخدم منذ قرون، وفي الفترة بين إنشاء الأمم المتحدة وانتهاء الحرب الباردة تم اللجوء إلى هذا السلاح مرتين بمقتضى قرار أممي في حالتي روديسيا (1966) وجنوب إفريقيا (1977)، لكن هذا السلاح أشهر كثيرا بعد عام 1990 في وجه العراق ويوغوسلافيا السابقة، وكذلك هايتي والصومال وليبيا وليبيريا وأنغولا ورواندا والسودان، وإيران.
وعمدت واشنطن وبعض حليفاتها إلى فرض عقوبات أحادية أشد وطأة على عدد واسع من الدول من دون قرار أممي.
ازدواجية وكوارث إنسانية…
وتتنوع العقوبات المفروضة ما بين الحصار الاقتصادي الشامل، وتجميد الأرصدة في الخارج للحكومات أو الأشخاص، ومنع الشركات الأجنبية من الاستثمار في بعض الدول، وتصل إلى فرض حظر على التحويلات المصرفية والحّد من استيراد المعدات الطبية والتقنية، وحتى بعض البضائع المصنفة بأنها ذات استخدام مزدوج.
وتسببت هذه العقوبات في كوارث إنسانية كما حصل في العراق بعد 1990، فقد قضى ملايين الأطفال والنساء والشيوخ نتيجة الحصار الذي تواصل حتى إسقاط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003 نتيجة انعدام الأدوية، وعدم توفر المياه الصالحة للشرب، وارتفاع أسعار المواد الغذائية على خلفية الانهيار الاقتصادي، ولم يفلح التحايل على القرار باعتماد صفقات “النفط مقابل الغذاء” في تخفيف المعاناة بل زادها ليكشف النقاب لاحقا عن حجم الفساد الذي شاب هذه الصفقات.
وفي النتيجة فإن من دفع الثمن هو الشعب العراقي بينما ظل صدام حسين على رأس الحكم حتى إزاحته بالغزو الأمريكي للعراق.
وفي مثال على عدم نجاعة العقوبات الاقتصادية وتأثيراتها يبرز المثال السوري واضحا، فالحصار الاقتصادي المفروض عربيا منذ نهاية 2011، والعقوبات الغربية المتتالية أخفقت في إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، وفي المقابل فإن أكثر من 10 ملايين سوري يعانون في داخل البلاد بسبب نقص الأغذية والدواء والفقر، إضافة إلى المعاناة من ويلات حرب شردت ملايين ودمرت البنية التحتية للبلاد.
ولابد من الإشارة إلى ازدواجية المعايير الغربية، فقد فرضت عقوبات على الاتحاد السوفيتي في سبعينات القرن الماضي على خلفية منع اليهود من الهجرة.
وتعرضت شعوب عربية للحصار والجوع، وفي المقابل لم تخضع إسرائيل لأي نوع من العقوبات الاقتصادية والتجارية رغم عدم تطبيقها العشرات من قرارات مجلس الأمن، والمئات من قرارات الأمم المتحدة، ومواصلة احتلالها للأراضي الفلسطينية وقتل المدنيين وقمعهم.
سلاح ذو حدين…
ويتضح من التجارب أن العقوبات الاقتصادية سلاح ذو حدين، فالحكومات المحاصرة يمكن أن تبتكر أساليب لتعويض النقص من أسواق أخرى، أو زيادة الاعتماد على المنتج المحلي، كما يمكن إيجاد خطوط ائتمانية من بعض الحلفاء لضخ الاستثمارات، وتطوير الاقتصاد، أو الحفاظ على مواقعها في الحكم، في وقت تتراجع وتيرة النمو في البلدان، التي تفرض العقوبات مع تراجع الصادرات، وازدياد البطالة.
وفي ظل العولمة وهيمنة الشركات العابرة للقارات، تلعب المصالح و”البزنس” دورا كبيرا في إزالة الحواجز، وإجبار الحكومات على إلغاء العقوبات والقيود، وتحتدم المنافسة على الدخول في أسواق البلدان، التي تُرفع عنها العقوبات وهو ما شهدناه في العراق وليبيا وإيران وغيرها.
وواضح أن المتضرر الأكبر من العقوبات والحصار هي الشعوب، فحسب تقديرات الخبراء فإن نجاح العقوبات في بلوغ أهدافها المعلنة لا يتجاوز خمسة في المئة، وعلى العكس استطاعت بعض الدول تنمية مواردها الداخلية الاقتصادية، ولم تسقط أنظمتها بل ترسخت وازدادت قوة.
سيريان تلغراف | سامر إلياس