الأزمة السورية تكشف حدود القوة بين روسيا والولايات المتحدة
يعكس التدخل الجوي العسكري الروسي رؤية ومنهجاً واضحين ومحددين تكاد تنفرد بهما موسكو من بين العواصم الإقليمية والدولية الفاعلة في الأزمة السورية.
منذ بدء الأزمة السورية تميز الخطاب السياسي الروسي بتحديد واضح للأهداف: لا لإسقاط الحكم في سوريا على الطريقة الليبية، لا لشخصنة الأزمة كما تفعل الدول الإقليمية، لا لحل عسكري لهذه الأزمة.
وتقوم المقاربة الروسية أساسا على إيجاد حل للأزمة بعيدا عن إسقاط النظام عسكريا، لما سيؤدي ذلك من إسقاط للدولة سينعكس سلبا ليس على المحيط الجغرافي لسوريا فحسب، بل يتعدى ذلك إلى الحدود القومية لروسيا، حيث تؤكد الاحصاءات المنشورة وجود ما يقارب 2400 مقاتل من جمهوريات ذات أغلبية مسلمة داخل الاتحاد الروسي، وفي حال انتصار المعارضة السورية، سيعود هؤلاء إلى جمهورياتهم، مما يفتح المجال لقيام حركات إسلامية مسلحة فيها.
وهنا حرصت موسكو دائما على التمييز بين شخص الأسد والدولة السورية، فالدفاع الروسي هو عن الدولة وليس الشخص، وإصرار الكرملين على دور رئيسي للأسد في المرحلة الانتقالية ناجم عن معطيات واقعية، وهي أن الأسد صمام بقاء استمرار منظومة الحكم حتى التسوية الكبرى، وربما تشكل هذه المسألة نقطة التلاقي الوحيدة مع واشنطن، وتم التعبير عنها في بيان مجموعة العمل الدولية (جنيف) المتضمن ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة.
كما تقوم المقاربة الروسية على ضرورة إيجاد صيغة للتعاون الدولي بعيدا عن نظام القطب الواحد، تأخذ بالاعتبار مصالح الدول في محيطها القومي، ومن المفارقة أن مفكرين وسياسيين أمريكيين يتبنون الرؤية الروسية للنظام العالمي الجديد، أمثال ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، وهنري كيسنجر الذي دعا إلى استلهام مبادئ وستفاليا عند التفكير في إنشاء نظام عالمي جديد تقوم على تبني نظرة واقعية وليس أيديولوجية لطبيعة العلاقات الدولية.
هذا وترجمت روسيا هذه الرؤية في سوريا، عبر الدعوة لتشكيل تحالف محلي وإقليمي ودولي لمحاربة الإرهاب، ثم إيجاد حل سياسي بمشاركة الحكومة السورية، شرط تقديم الأخيرة تنازلات سياسية، على عكس المقاربة الأمريكية التي تريد تنازلات سياسية من الحكومة السورية من دون أن يكون لها دور في مستقبل سوريا السياسي، أو على الأقل تقليص هذا الدور إلى حدوده الدنيا.
بخلاف موقف موسكو، اعتبر الموقف الأمريكي أكثر المواقف تذبذبا وتلونا، فلا هي مع بقاء الأسد في الحكم، ولا هي مع أي تدخل عسكري يهدف إلى إسقاطه، ولا هي مع دعم المعارضة المسلحة بالأسلحة النوعية، ولا هي بالمقابل مع القضاء على هذه المعارضة.
وتقوم المقاربة الأمريكية أساسا على إطالة أمد الأزمة من أجل القضاء نهائيا على موقع سوريا الاستراتيجي في معادلات المنطقة، خصوصا تلك المتعلقة بإسرائيل، فاستمرار المعارك فرصة تاريخية للولايات المتحدة وإسرائيل لن تتكرر، إذ تضعف من مكانة سوريا الإقليمية وتستنزف إيران و “حزب الله”، وتقلص فرص تورط إسرائيل بشكل مباشر، ما يمكنها من تحقيق مصالحها بصمت، ومن دون دفع أثمان سياسية وأمنية كبيرة، وفق ما صرح به أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين.
ويمكن ملاحظة المخطط الأمريكي بشكل فظ من خلال محاربة “داعش”، حيث فشل التحالف الدولي الذي يضم نحو ستين دولة برئاسة الولايات المتحدة في تحقيق هزيمة بالتنظيم داخل سوريا، في حين استطاعت موسكو بغضون أسبوع، تحقيق ما عجز عنه التحالف طوال عام كامل.
إن التدخل العسكري الروسي يأتي كمحاولة لسد الفراغ الذي خلفته السياسة الأمريكية المراوغة والتي أدت إلى تفاقم الأزمة السورية، بعدما تمكنت العاصمتان واشنطن وموسكو طوال السنوات الأربع الماضية من الحفاظ على الصيغة التالية: عدم دعم الولايات المتحدة للمعارضة المسلحة السورية بأسلحة متطورة جدا، مقابل عدم تقديم روسيا أسلحة متطورة إلى دمشق، باستثناء طبيعة الإمداد العسكري المتعارف عليه بين البلدين منذ عقود.
الهدف الأمريكي من هذه الصيغة، هو الحيلولة دون إيجاد حل عسكري أو سياسي للأزمة، في حين يأتي القبول الروسي بهذه الصيغة خشية من اطلاق سباق تسلح عالمي في سوريا، منفلت من عقاله، ولم يحدث التدخل الروسي إلا عندما بدأ الإخلال بهذه الصيغة من اطراف إقليمية داعمة للمعارضة.
بكل الأحوال، سيؤدي التطور الروسي إلى تحريك المياه السياسية الراكدة في سوريا باتجاه إيجاد صيغة للحل السياسي، وإن كانت هذه الصيغة تميل لطرف أكثر مما تميل إلى الطرف الآخر، لكن هذه الصيغة تظل أفضل بكثير من صيغة “الستاتيكو” التي خيمت على الأزمة السورية منذ خمس سنوات.
لدى موسكو هدفان واضحان: الأول، القضاء على “داعش”، والثاني، بلورة اتفاق سياسي أولي يحظى بقبول دولي تمهيدا للتسوية النهائية للأزمة السورية.
سيريان تلغراف | حسين محمد