واشنطن ولعبة الأخطاء القاتلة
اتسمت المغامرات العسكرية التي خاضتها الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين من الزمن، كسابقاتها، بسلسلة متلاحقة من الأخطاء والنكسات أدت إلى مقتل مئات الآلاف من البشر وتدمير عدة دول.
وواشنطن ما انفكت تعترف بالخطأ تلو الآخر، وبالنكسة تلو الأخرى، إلا أنها مع ذلك تواصل نفس السياسات وتكرر نفس المغامرات مع تعديلات شكلية في إخراجها الدامي والمدمر، فهي لم ترسل جنودها، مثلا، إلى ليبيا في عام 2011 واكتفت بإرسال طائراتها المقاتلة وقاذفاتها وسفنها الحربية وصواريخها المجنحة، لكن النتيجة كانت مدمرة والأوضاع الناتجة عن ذلك كارثية ومزرية.
ولا يضير الولايات المتحدة على أي حال ما يحدث في ساحات الحروب التي تفننت في إشعالها منذ الستينات، طالما أنها محصنة، ولا تستطيع أي جهة محاسبتها على ما تقترفه قواتها في غزواتها وغاراتها، لذلك تواصل نهج القوة على الرغم من مرارة هزيمتها في فيتنام.
ويسمح المسؤولون الأمريكيون لانفسهم أحيانا بأن يكونوا صرحاء، بخاصة حين يكتمل مشهد المأساة وتبتعد عنهم الأضواء، فيصعدون المنبر ليدلوا بشهاداتهم عن أخطاء الإدارات الأمريكية المتعاقبة ونكسات خططها هنا وهناك. لكن بطريقة أمريكية خاصة لا تغني ولا تسمن من جوع. آخر تصريح من هذا النوع، هو وصف البنتاغون سقوط مدينة قندوز في شمال أفغانستان مؤخرا في يد مسلحي حركة طالبان بالانتكاسة.
هذا الوصف تردد على ألسنة المسؤولين الأمريكيين عند سقوط مدينة الرمادي في محافظة الأنبار بالعراق بأيدي مسلحي تنظيم “الدولة الإسلامية ” في مايو/أيار الماضي. ورددت وزارة الدفاع الامريكية حينها عبارات جمعت بين الاعتراف بالفشل وتبريره، حيث قال المتحدث باسم البنتاغون الكولونيل ستيفن وارن “قلنا على الدوام إنه ستكون هناك عمليات كر وفر، وانتصارات وانتكاسات. وما حصل انتكاسة!”.
وبالتزامن مع انتكاسة قندوز، اعترف الرئيس الامريكي باراك أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بارتكاب أخطاء في ليبيا عام 2011 في الضربات الجوية التي ساهم الناتو والولايات المتحدة من خلالها بالقسط الأوفر في إسقاط نظام القذافي، إلا أنه لم يدخل في تفاصيل ما نتج عن قرار إزاحة القذافي بالقوة من مآس وكوارث، واكتفى بالإشارة إلى أنه كان يجب “فعل المزيد وملء الفراغ الذي تركه القذافي!”
أوباما كان قد صرح في مارس/آذار من عام 2011 بأن الولايات المتحدة “لا يمكن أن تسمح لنفسها” بتكرار أخطاء الحرب في العراق بمحاولتها الإطاحة عسكريا بالزعيم الليبي معمر القذافي.
لكن الولايات المتحدة سمحت لنفسها بارتكاب أخطاء فادحة جعلت من ليبيا بلدا منكوبا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، إلا أن الرئيس الأمريكي كان صادقا في وعده لأنه كان يتحدث عن آخرين ليسوا من سكان هذا البلد، وهو يقصد أن “المخاطر التي سيواجهها جنودنا وجندياتنا ستكون كبيرة جدا. وكذلك التكاليف ومسؤوليتنا لما سيحصل بعد ذلك!”.
أوباما أوضح بشكل جلي ما يشغل إدارته ويؤرقها من دروس العراق المريرة “لقد سلكنا هذا الطريق في العراق ولكن تغيير النظام استوجب ثماني سنوات وكلف آلاف الأرواح من الأمريكيين والعراقيين وحوالى ألف مليار دولار. لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بأن يتكرر هذا الأمر في ليبيا”.
أما بول بريمر مهندس الكارثة العراقية وحاكم العراق الفعلي لمدة 14 شهرا بعد إسقاط صدام حسين عام 2003 فقد أقر هو الآخر في عام 2013 بوجود ” أخطاء استراتيجية كبيرة تم ارتكابها”، وعزا ذلك إلى أن “عقلية ما بعد فيتنام التي كانت سائدة بين جنرالات الجيش الأمريكي أدت إلى حرب غير فعالة مع المسلحين، فما أن تقضي على العدو في مكان ما، حتى يظهر بغتة في مكان آخر”.
لم يعترف بريمر مع ذلك بما اقترفت يداه من أخطاء قاتلة في إدارته للعراق أثناء الاحتلال الأمريكي، بل أرجع مسؤولية الكوارث هناك إلى عدم إرسال 400 الف جندي، بدلا من 180 ألفا!
وهكذا تتنصل الولايات المتحدة بسهولة، بل وبوقاحة من مسؤوليتها عن نتائج مغامراتها المدمرة في كل مكان يطأه جنودها أو تحلق في أجوائه قاذفات قنابلها. ويتنصل بريمر بالطريقة ذاتها من مسؤوليته المباشرة عن الكارثة العراقية الكبرى، فيما يتواصل نزيف الدم ولا تنتهي الفواجع في أفغانستان وفي العراق وفي ليبيا، وتتمدد في سوريا وتبحث عن منفذ في الدول الأخرى التي لم يصل إليها بعد الربيع الأمريكي الدامي.
سيريان تلغراف | محمد الطاهر