وداعا بودابست! هل انتهت محنة اللاجئين في المجر؟
تحركت القطارات من محطة بودابست، وتقاطر نمساويون بسياراتهم الخاصة لنقل مئات اللاجئين.
وبدات اليوم منذ الصباح الباكر حركة نزوح من المحطة التي يأمل اللاجئون ان تكون الاخيرة في درب الآلام الممتد على طول الوطن الطارد لابنائه ،ومافيات التهريب التي تعمل وفق شعار” مصائب قوم عند قوم فوائد”.
المصيبة كما يقول لاجئ سوري وصل ليلة أمس الى بودابست؛ في ركوب مخاطر البحر؛ فاذا ما نجا اللاجئون من الغرق، فانهم يصلون البر؛ بدون أموال وامتعة .
ويسرد ( ع.ن.) كيف ان الزورق المطاطي ، بدأ يغرق رويدا رويدا؛ فحمل ولديه الصغيرين على رأسه فيما أخذ شباب آخرون يجذفون في محاولة للعودة الى البر.
ويقول ” في تلك اللحظات الرهيبة، كان الموت يحيق بِنَا مع بارقة أمل ضئيل برزت في الأفق حين صرخ احدهم انه يسمع صوت حوامة، لكننا لم نسمع غير هدير الامواج التي بدأت تعبث بزورقنا”.
وقبل ان يصل الزورق الى الغرق التام هبطت النجدة من برمائية وأنقذت اكثر من مئة لاجئ كانوا قاب قوسين من الغرق، في زورق لايتسع لأكثر من ثلاثين شخصا كحد أقصى.
مافيا المهربين
وفضلا عن ان مافيات التهريب تأخذ الف يورو، وأحيانا اكثر، على ” الرأس الواحد” فان الجشع يجعلهم يختارون زوارق متهالكة أصلا؛ رخيصة الثمن، ومحركات لا تقدر على حمل اكثر من خمسين او ستين راكبا في زوارق مطاطية لا تتسع الا لعشرين او ثلاثين.
ويقول اللاجئون ان المهربين، يسعون لتحقيق اكبر الأرباح على حساب حياة الألوف ممن قضوا غرقا. فالزورق اذا وصل الى البر، يصادر من قبل حرس الحدود اليوناني. اي انه صالح للاستعمال مرة واحدة، وغالبا ما يكون غير صالح حتى لهذه المرة.
ولحقت مافيا المهربين باللاجئين الى المجر؛ لابتزازهم واستغلال قرار السلطات المجرية بمنع السفر من محطات بودابست بالقطار. فاخذوا يعقدون صفقات مع من تبقي لديهم بعض المال لتهريبهم بالسيارات عبر الحدود مع النمسا. ووقع عشرات اللاجئين ضحية الخداع وخسروا اموالهم وعادوا خائبين الى محطة القطار؛ الى ان فتحت السلطات المجرية السفر.
من درعا حول العالم !
مهاجر آخر يريد الالتحاق بذويه في احدى الدول الإسكندنافية، كانوا وصلوها قبل عامين ، يقول انه نزح من درعا السورية نحو الاْردن قبل اكثر من عام . وعاش في عمان الى ان أنفق كل مالديه من مال، ولم يتمكن من الخروج الى تركيا الا بعد معاناة طويلة بحثا عن المال والنوم في العراء وممارسة شتى المهن الشاقة.
ويقول ” جمعت بعض المال وسلمته للمهرب وخضت تجربة ركوب البحر ثلاث مرات”
– كيف؟!!
– “المرة الاولى اكتشفنا ان المهربين خدعونا وانزلونا على سطح جزيرة تركية غير مأهولة . والمرة الثانية غرق الزورق فانقذتنا قوات خفر السواحل التركية”.
وأخيرا المحاولة الثالثة من السواحل الليبية؛ أوصلته الى اليونان قبل شهرين. ومنها بدأت رحلة الزحف نحو المجر، بوابة المهاجرين نحو أوربا العجوز التي استيقظت في شوارعها حركتان :
حركة يمينية فاشية، تستلهم كل الشعارات القومية المتطرفة من قاموس الحركة النازية. ترفض المس “بالنقاء الاوربي”او “تدنيس الحضارة المسيحية” على يد المهاجرين المسلمين.
وحركة ليبرالية تستلهم كل التراث الإنساني والثقافي للحضارة الأوربية منذ عصر النهضة وقيام مجتمعات حقوق الانسان والعدالة.
المعضلة المجرية
في المجر التي واجهت حكومتها بقيادة الحزب الحاكم؛ المصنف على انه يمين الوسط، لجأ رئيسها فيكتور اوربان الى الماضي القومي للشعب الهنغاري؛ الذي ما تزال في ذاكرته الجمعية، جروح غائرة، متمثلة في الاحتلال العثماني الذي امتد لأكثر من قرن ونصف، واقتطاع اجزاء من الاراضي المجرية بعد تفكك امبراطورية النمسا والمجر، وأخيرا ما يوصف اليوم في الادبيات السياسية المجرية المعاصرة بانه “احتلال سوفياتي” عندما حرر الجيش الأحمر هنغاريا(المجر) من الاحتلال الألماني وقيام نظام حكم شيوعي شهد انتفاضات، اكبرها انتفاضة عام 1956 التي يقول المعادون للشيوعية انها كرست ” الاحتلال السوفياتي” .
هذه الجروح في الذاكرة الجمعية الهنغارية أججها الحزب الحاكم الذي وصل الى الرئاسة باغلبية ثلثي الناخبين، وتسلم خزينة خاوية واقتصادا يحتضر من ائتلاف احزاب توارثت الحكم بعد سقوط الحزب الشيوعي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وانفراط عقد الاتحاد السوفياتي و” المعسكر الاشتراكي” الذي كانت المجر عضوا في منظومته العسكرية والسياسة وحصلت بفضل ذلك على مساعدات سخية من ” الشقيقة الكبرى ” موسكو.
الا ان المجر بدأت تنحدر نحو الفاقة بعد انهيار الشيوعية؛ ليس لانها لم تقم نظاما بديلا فعالا فحسب؛ بل وايضاً لان ورثة الشيوعية نهبوا ثروات البلد وعاثوا فيه فسادا؛ تماما مثلما حاق بروسيا؛ قبل وصول الرئيس فلاديمير بوتين الى سدة الحكم مع بدء الألفية الثالثة.
اليوم تسعى النخبة الحاكمة في بودابست الى تذكير شعبها ؛ انها تريد احياء عظمة الأمة الهنغارية ، والتعويض عن قرون وسنوات الضياع تحت رماح الغزاة وصراعات الدول الكبرى.
وقد يكون الحزب الحاكم، نجح في استنهاض المشاعر القومية، لكن التراث الإنساني للشعب الهنغاري؛ حال دون ان تحصل الحركة الفاشية على شعبية كبيرة. ووقعت حوادث فردية محدودة؛ قام خلالها “حليقو الشعر” ممن يرسمون التاج الإمبراطوري المجري على جلدة رؤوسهم الحليقة بإرهاب اللاجئين وإطلاق قنابل صوتية لم تحدث غير الرعب بين الأطفال.
ولكن أطفال اللاجئين هؤلاء أنفسهم كانوا يحصلون كل يوم على الملابس والالعاب وعلى برامج ترفيهية في الهواء الخانق لمحطة قطارات ” كيلكي” التي دخلت الذاكرة العربية على انها ساحة الآلام والعذابات.
وفي نفس الوقت لن ينسى الأطفال وذوهم تلك الرعاية العفوية من عشرات الشابات والشبان الهنغار ؛ كانوا ياتون كل يوم لإسداء المساعدة، الى جانب مساعدات غذائية تتبرع بها منظمات المجتمع المدني الهنغارية واُخرى اوربية.
وبفضل الحضور الشعبي، أصبحت قوات الدرك تحت المراقبة وحالت، الى جانب الأوامر الرسمية؛ دون وقوع انتهاكات ، الا في معسكرات اللجوء المغلقة التي يصفها بعض اللاجئين ممن تمكنت الشرطة المجرية إلحاقه بها بأنها تشبه “معسكرات اعتقال”.
تسونامي!
لم نحصل على شهادات موثقة بالصوت والصورة لانتهاكات يُزعم لاجئون انها حاقت بهم، لكنهم يرفضون الحديث عنها امام الكاميرات، الامر الذي يطعن في صدقيتها، وان كان وقوع انتهاكات امر وارد على يد قوات الشرطة في بلد تعرض الى ما يشبه تسونامي بشري، على تعبير صحيفة مجرية، بتدفق عشرات الألوف نحو محطات القطار في بودابست؛ المدينة الوادعة، التي تعتبر من اجمل مدن أوربا التاريخية؛ تغفو وتستيقظ على الدانوب الهادي الأزرق.
وبعد أسبوع من التشنج والجدل في الدوائر الهنغارية الحاكمة، وفي اروقة الاتحاد الاوربي؛ توصلت أوربا العجوز الى حل انساني لمحنة اللاجئين وسط صمت وتجاهل عربيين وغياب مطلق للدور الاسلامي.
لم يفتي المشايخ المعروف عنهم تبحرهم في ” فقه النجاسة”!
ولم يُرفع، ولو شكليا، شعار التضامن مع اللاجئين. بل على العكس صدرت تصريحات مثيرة للشفقة والسخرية، من قبيل ان أوريا تتآمر على العرب باستقبالها للمهاجرين!
تصريحات سخر منها اللاجئون الملتاعون في بحار ومحطات وشوارع وساحات تبدأ من تركيا مرورا باليونان فمقدونيا وصربيا…. ولا تنتهي في بودابست. فما زال أمامهم الكثير للحصول على حق اللجوء؛ وسيكونون مادة للمساومة والابتزاز في اروقة أوربا الرسمية التي انقسمت الى معسكر الأعداء ومعسكر الأصدقاء واختلفت حول ملف اللاجئين .
والى الغد.
سيريان تلغراف | سلام مسافر