تحقيقات وتقارير

حمامات السوق .. تدخل حياة السوريين من باب ” الأزمة”

دمشق هي إحدى أمهات المدن العربية التي عرفت بحماماتها العامة والخاصة في الدور والقصور، وكان أهل دمشق يفخرون بحماماتهم إبان عهد الأمويين. وذكر أن الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك لما بنى مسجد دمشق الكبير الأموي تحدث إلى أهل دمشق بقوله: “تفخرون على الناس بأربع خصال، تفخرون بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم فأحببت أن يكون مسجدكم الخامسة”.

حمامات-السوق

و أثارت هذه الحمامات الدمشقية اهتمام المؤرخين، وكان أول من بحث فيها الحافظ بن عساكر 571 هـ في تاريخه الكبير، وأفرد لها جانباً من بحثه عن التعريف بأقنية المياه التي في دمشق، فذكر 57 حماماً. وفي القرن الثامن الهجري أتى أبو علي الحسن بن أحمد الشافعي، فعدد ما كان في أيامه من الحمامات فبلغت 137 حماماً، منها 74 داخل دمشق. أما يوسف عبدالهادي 909هـ، فقد قدم كتاباً مهماً في الحمامات عنوانه “آداب الحمام وأحكامه” ويمكن اعتباره صورة صادقة للتراث الشعبي في الحمامات إبان القرن العاشر الهجري، اذ تحدث عن شروط بناء الحمام، ودخول الرجال والنساء إليه ونفعه ومضرته والأوقات التي يُدخَل اليه فيها، وكذلك حكم مائه وبيعه وشرائه وأرضه وبلاطه، وحكم العورة فيه، ومن مدحه من السلف ومن ذمّه.

وفي العصر الحديث، كان كتاب المهندسين الفرنسيين ايكوشار ECOCHARD ولوكور LECOEUR 1942 عن الحمامات الدمشقية من أحدث وأشمل الكتب في هذا المجال، إذ بحثا في تطور حمامات دمشق حتى القرن التاسع عشر. وأوجزا الحديث عن مياه دمشق ووصفا الحمام وبحثا في الحياة الاجتماعية فيه. وجاء كتابهما في مجلدين وعنوانه “حمامات دمشق” Les Bains De Damas وعددا فيه حمامات دمشق في تلك الفترة وكانت تبلغ 60 حماماً، وبيّنا إلى جانب معظمها أوقات عمل الحمام نهاراً أو ليل – نهار.

لا خيارات أخرى

الإقبال على الحمامات الدمشقية عاد إلى نشاطه خلال السنتين الأخيرتين بعد أن اعتزله رواده كونه كان يصنف ضمن كماليات الحياة ليعود كجزء من الحياة عند الكثير من الأشخاص الذين طالتهم الأزمة.
بداية فصل الشتاء وزيادة ساعات تقنين الكهرباء وقلة توافر المياه في دمشق جعلني أرى حمام السوق هو الحل الوحيد لمشكلتي وبدأت أذهب إلى حمام السوق مرتين في الأسبوع هذا ماقالته “سها.د” إحدى زبائن الحمام التي التقت بها “بلدنا”، وتتابع سها، نسكن في منطقة المزة، حيث تأتي الكهرباء لساعتين وتقنن لمدة أربع ساعات وبهذا الوقت القصير لا يمكن للمياه أن تسخن على الكهرباء  لهذا السبب أصبحت أزور حمام السوق كل خميس واثنين واستمتع  بالاستحمام بالماء الساخن وانتشار البخار في مختلف أروقة الحمام .
أما “ريم. ف”، فتختلف أسباب زيارتها لحمام السوق عن سها؛ فهي عروس جديدة تقطن بسبب الأحداث مع عائلة زوجها المؤلفة من أكثر من خمسة عشر شخصاً، ولأنها لا تملك الوقت الكافي للاستمتاع في الحمام بسبب كثرة قاطني البيت، لم تر حلاً إلا الذهاب إلى حمام السوق ثلاث مرات في الأسبوع والاستمتاع بحمام دافئ يتخلله الكثير من الرفاهية والتسلية مع الصبايا المتواجدات في الحمام، لاسيما أن تكلفته المنخفضة تشجع على زيارته.

بدل السيران

أم أحمد تأتي هي وبناتها وجارتها إلى حمام السوق كل يوم خميس ويحضرن معهن الطعام. تقول أم أحمد اعتدنا أنا وجيراني قبل الأزمة أن نخرج كل يوم خميس إلى الغوطة كرحلة ترفيهة نسائية، وبعد الأزمة توقفنا عن هذه الرحلة الترفيهة بسبب الظروف الأمنية الصعبة ولم نجد حلاً لنا إلا أن نجتمع كل يوم خميس في حمام السوق، لنضرب عصفورين بحجر واحد، حيث نستحم بحمام ساخن وبخار ونجتمع ونقضي وقتاً جميلاً بعيدا عن الهموم من جهة أخرى.
ومن جهته أكد السيد فراس قويس صاحب حمام الورد الدمشقي أن نسبة المهجرين والنازحين هي الأكبر من رواد الحمامات، مضيفاً أنه قبل الأزمة كان رواد الحمامات الدمشقية هم من السيّاح وبعد الأزمة وبسبب عدم توافر الكهرباء والمازوت ازاد عديد رواد الحمامات، ما لم يجعلنا نفقد الزبائن على عكس كثير من المهن الأخرى، مبيناً أن أسعار الحمامات لم ترتفع إلا بشكل بسيط ويعود بسبب إلى ارتفاع سعر المازوت.

الحمامات الدمشقية

حمام السوق يتألف من ثلاثة أقسام: “البراني” و”الوسطاني” و “الجواني”. عند دخولك من الباب الرئيسي تطالعك بحرة ماء مزخرفة ونافورة وعلى اليسار مصطبة مفروشة بالسجاد تصعد إليها بثلاث درجات وفي هذه الفسحة يخلع المغتسلون ثيابهم ويزودون بالمناشف  والقباقيب، وبعد خلع الملابس يدخل المستحمون إلى الجواني، الذي تنتشر فيه الأجران الحجرية والطاسات النحاسية وتبدأ عملية “جلد الأوصال” في جو غائم من البخار فيما تنشر أشعة الشمس دفئها من القباب المغطاة بالزجاج المقفى والملون، رائحة صابون الغار الحلبي تفوح في أرجاء وردهات الحمام والصغار يتزحلقون على ألواح الرخام وتعلو ضحكاتهم، لكن صراخهم يعلو عندما يمددهم “المصوين” المتخصص بفرك الجسم بكيس الحمام الحلبي السميك والمخربش، وبعد أن يغتسلوا يعودون إلى الوسطاني وهو عبارة عن ردهات تستعمل لفرك الجسم وتستمد غرف الجواني المياه الباردة والساخنة من حوض الماء الحجري من خلال أنابيب قرميدية تمتد داخل جدران الحمام ليعم الدفء كل الأرجاء، بعد انتهاء الحمام يرجع المستحمون إلى البراني للجلوس في المصطبة اليمينية ويشربون الشاي والزهورات ومن ثم يتناولون مختلف أنواع الأطعمة التي أحضروها معهم في هذه الرحلة الصحية.
الجدير بالذكر أن الحمامات الشعبية في سورية لم تكن مقتصرة على الاستحمام فقط، بل كان لها الكثير من الفوائد وخاصة تجاه معالجة بعض الأمراض الجلدية والعصبية.
ومن أشهر هذه الحمامات التي لاتزال قائمة إلى الآن، حمام نور الدين في دمشق القديمة “البزورية” وحمام الورد في سوق ساروجة وحمام الشيخ رسلان في باب توما.

سيريان تلغراف

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock