الرسم بالنار .. بقلم يحيى محمد ركاج
انتشر مقطع إحراق الشهيد الكساسبة – بغض النظر عن كونه صحيحاً أو قائماً على الخدع البصرية والتضليل- كانتشار النار في الهشيم، فاتحاً الأبواب على مصارعيها لتأويلات تحمل من الفوضى ما يفوق قدرة ما بقي من فكر لدى لمامة الأعراب على تحمله، وامتلأت معه مواقع التواصل الإجتماعي بتعليقات تذكرنا بإحراق البوعزيزي نفسه معلناً الشرارة الأولى لما أطلق عليه الثورة التونسية وفاتحة الربيع العربي الذي يحمل حلم الديمقراطية والتغيير لشعوب المنطقة على حد زعمهم، ولعل المفارقة الكبرى التي تمسخ ما بقي من تفكير لدى الشباب العربي هو الستار الديني الذي تم إضفاؤه على الواقعتين، فالبوعزيزي في عرف الدين الحنيف منتحراً، ومعلوماتنا المتواضعة تقول من انتحر فهو في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومع ذلك أفتى بعض من يقال عنهم شيوخ ومعهم بعض لماماتهم بأنه شهيد وطريقه معبد للجنة لأنه فاتحة التغيير والله أعلم.
في حين تم تسويق إحراق الشهيد الكساسبة على أنه من الردع تحت ستار الدين، وبدأ بعض لمامة الشيوخ يفتي ويقيس ويجتهد على حوادث سابقة تمت في زمن الصحابة وما تلاهم كما وردت إلينا في كتب التاريخ التي أصبحنا نشك بوثوقيتها، وفي مقابل هؤلاء اللمامة قام بعض الشيوخ وعلماء الدين بالتذكير بالأحاديث النبوية قوية الإسناد وببعض الحوادث التي حدثت في زمن الصحابة ومن تلاهم أيضاً بوجوب عدم الحرق واستعمال النار والتأويل على رب العالمين.
وفي مقاربة زمنية بين حادثتي الحرق، نلاحظ الرضوخ والسكوت عن تأويلات البوعزيزي، ويقابلها المواجهة في واقعة الشهيد الكساسبة، الأمر الذي يجسد مسارات جديدة لرسم خارطة الشرق الأوسط الجديد دون الإستعانة بترويج وتسويق بوشت والبيت الأسود أو الشمطاء رايس والصفراء كلينتون.
لقد فتحت حادثة البوعزيزي النار على أمن واستقرار المنطقة المخترق أصلاً حتى يعيد رسم الحدود الافتراضية استناداً على ما قدمه اللوردان سايكس وبيكو، فقد انتهت صلاحية اتفاقيتهما المدعومة بوعد بلفور، والتي كانوا يرون فيها بقاءً آمناً مستقراً للكيان الصهيوني بالمنطقة لخمس وسبعين سنة أو قرن على أقصى تقدير، وأصبحت المنطقة الآن بحاجة إلى اتفاقية جديدة بمسميات يقبلها ويقدسها العقل العربي المستنسخ بكل شيء حتى بابتكاراته، الأمر الذي لن يتم بيسر وسهولة للغرب مالم يتم القضاء على التلازم الروحي والتكامل البنيوي بين العروبة والإسلام، وهو ما تم تطويقه في الإطار القومي العربي من خلال تشويه مكانة سورية وتدميرها وإقصائها عن الهيكل العربي، أو تقسيم الجسد العربي إلى فتات ينازع من أجل البقاء ويجاهد من أجل استنساخ قذارات الغرب، وفي إطار الإسلام تم شرذمة الدين إلى ملل ومذاهب وفرق متناحرة ومختلفة بعيدة كل البعد عن الشهادتين والعدل والتسامح والرحمة والخلق العظيم.
لقد أتت حادثة الحرق لتثير فتنة الدين من جديد، وتعيد إلباس طربوش الجهاد والدين بين الجماعات المختلفة تطويقاً لشبه الجزيرة العربية وتفتيتاً لدول منطقة الطوق وباقي الدول التي لا تزال تتمسك بمنهجي العروبة والإسلام، وما الأحداث التي يشهدها الشارع العربي في كل من لبنان ومصر واليمن والجزائر والسودان والصومال والأردن وإنخراط الإمارات وقطر وباقي دول الخليج في القاطرة نفسها، وما يرافقها من تهجير ممنهج للشباب نحو الغرب، وتوجيه قسري لمحور المقاومة من أجل تقييد تحالفاته ضمن طابع فئوي، وزيادة الاستيطان الصهيوني وتهجير الفلسطينيين المتزايد نحو الأردن وسيناء ومحاولة إقصاء حق العودة لهم بتدمير أماكن تواجدهم في سورية ولبنان وتهجيرهم منها، إلا إمتداداً لرسم خارطة جديدة للمنطقة تقضي على إرادة القوة الكامنة لدى الشباب العربي.
ولا نكرر أنفسنا إذا أعدنا قراءة خارطة حدود النار للشرق الأوسط فهي الأداة الجديدة التي استخدمها ويستخدمها الغرب لتطبيق تقرير حدود الدم في رسم الحدود الجديدة للمنطقة، وأن حجر العثرة كان في وجه هذا المشروع سابقاً هو سورية وحلف المقاومة الذي تدعمه وتوجهه من الداخل.
وكذلك الأمر الآن، فإن النجاة الوحيدة التي تبدو للعيان هي بالانضمام إلى تحالفات سورية وإطلاق يدها في بناء تحالفات جديدة تساند جيشها في مواجهة الإرهاب الذي يهدد المنطقة برمتها أولاً، ويسمح لها بإعادة بناء استراتيجية مقاومة جديدة تنتقل من الدفاع إلى الهجوم، فهل يعتبر العرب أولي الأبصار، أم أن اللمامة مصيرها إلى زوال؟
سيريان تلغراف | د. يحيى محمد ركاج
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)