وداعاً “بندر بوش”
الأمير بندر بن سلطان، واحد من أقوى الشخصيات السعودية التي خدمت في الرياض وواشنطن، خلع من قبل الملك سلمان بن عبد العزيز الذي لم يضيع هو والأشخاص الذين قلدهم أرفع المناصب، أي وقت فقاموا بتغييرات زعزعت أكثر المواقع أهمية في حكومتهم، خاصة عندما سيطرت الإهتمامات الأمنية للولايات المتحدة الأميركية على الصورة.
التغيير الذي أثار صخباً دولياً كان بلا شك إعفاء الأمير بندر بن سلطان، والمعروف باسم “بندر بوش” عندما كان سفيرا لبلاده في واشنطن، من منصبه كرئيس لمجلس الأمن الوطني السعودي، وهو الذي ترك منصبه كرئيس للإستخبارات في العام الماضي.
وتشرح مسيرة بندر بن سلطان، من تشرين الثاني العام 2013، كيف أصبح هذا الشخص قوة لا في المملكة العربية السعودية فقط ولكن أيضاً في واشنطن، الأمر الذي يفسر لماذا وكيف ساهم بقوة في إثارة الفوضى التي تحكم الشرق الأوسط بأكمله الآن.
عندما كان بندر سفيراً في واشنطن، كان يُعد من واحداً من النخب الأميركية الكثيرة، كان يدخن أفخر أنواع السيجار ويشرب أفضل أنواع الكونياك، كان رسولاً ملكياً للمملكة العربية السعودية لنحو 30 عاماً، أخبر فيها قصصاً مذهلة عن السياسيين والملوك، وبعضها أثار الدهشة لصحته، أحبه الصحافيون في واشنطن، وكان أحد أفضل الأشخاص للوصول إلى أصحاب القوة والنفوذ والمراكز العليا، جاء ومعه الكثير من الأموال التي أنفقها بهدوء بإطار واسع لمساعدة أصدقائه.
على مر السنين، رتب بندر خفض أسعار النفط العالمية لخدمة الرؤساء جيمي كارتر ورونالد ريغان وبوش الأب والابن على حد سواء.
كما رتب بناء على طلب بيل كايسي من وكالة الإستخبارات المركزية “سي.آي.ايه” ومن دون معرفة الكونغرس، للسعوديين تمويل الحروب المناهضة للشيوعية في نيكاراغوا وأنغولا وأفغانستان، كان وثيق الصلة بكل من ديك تشيني، وعائلة جورج بوش من الأب والأم، والأبناء، والبنات حتى تم وصفه بأنه “بندر بوش”.
الآن، الأمير هو جاسوس، أو بتعبير أدق، الجاسوس السيد للشرق الأوسط، هو الرجل المحوري في برنامج السعودية الواسع في العمل السري، وهو ما ظهر جلياً من خلال الإنفاق الكبير الذي ساعد في الإطاحة بحكومة “الإخوان المسلمين” المنتخبة في مصر، كما في محاولة إنشاء “جيش الإسلام” في سوريا. غير أنه من دون فهم الرجل ومهمته، لن يكون هناك طريقة فعلية لفهم ما يحدث في المنطقة الأكثر اضطرابا في العالم في الوقت الحالي.
إن هدف بندر هو تقويض القوة الإيرانية: إبعاد حلفاء طهران مثل (الرئيس السوري بشار الأسد) و”حزب الله”، الحؤول دون حصول مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي الخامنئي على أسلحة نووية، وقف مخططاته الإقليمية؛ ودفعه للخروج من منصبه إذا كان هناك أي طريقة لفعل ذلك.
في الوقت نفسه، يسعى إلى سحق جماعة “لإخوان المسلمين” السنية، التي تتمسك بالديموقراطية وهي في الأساس مناهضة للملكية السعودية.
ويحقق برنامج بندر بعض التحالفات المثيرة للإهتمام، وفي وقت يعلن فيه كل من السعودية وإسرائيل أنه لا يوجد بينهما أي معاهدة سلام، إلا أن “عدو عدوي هو صديقي”، والتالي أصبح بندر بحكم الأمر الواقع حليفاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين “بيبي” نتنياهو في محاربة ايران.
يقول المؤرخ روبرت ليسي، مؤلف كتاب “من داخل المملكة: الملوك ورجال الدين والحداثة، الإرهابيون، والنضال من أجل المملكة العربية السعودية” إنهما “موحدان بشكل غريب (…) وقد كان بندر يميل دائماً لتحدي إتفاقيات وقواعد الإنحناء… بندر رجل مع وقاحة”.
يقول بعض زملاء بندر السعوديين ان تصريحاته عبارة عن تنفيس للغضب، غير أن الذين يتتبعون حياته المهنية يقولون أن كلامه جزء من التحول الذي يتحدث عنه، والذي من المرجح أن يترجم في محاولة لتوثيق العلاقة مع باكستان المسلحة نوويا.
وحيث أن رئيس الوزراء المنتخب مؤخرا في باكستان، نواز شريف، عاش تحت حماية العائلة المالكة في المملكة العربية السعودية معظم العقد الماضي، يتوقع الصحافي والباحث ديفيد اوتاواي، وكاتب سيرة بندر بن سلطان “رسول الملك” في عام 2009 أنه “إذا أصبحت إيران قوة نووية وهددت المملكة، يمكن لباكستان أن تصبح المدافع الرئيسي عنها بدلا من الولايات المتحدة”. وبحسب مركز “كارنيغي للشرق الأوسط” يقول الباحث يزيد صايغ أن “السعوديين حاولوا اقناع الباكستانيين القيام ببرنامج تدريب رئيسي للمتمردين السوريين”.
ويمكن رد الكثير من هذا التحول إلى الإحباط السعودي مع أوباما، ولكن المشكلة الأكبر لبندر قد تكون بندر نفسه، فقد وضع موارد وهيبة المملكة العربية السعودية مرة تلو الأخرى في حالة حرجة، فمن مساهمته في الحرب السورية، عمليا تشكل الكارثة الدموية الأكبر على عتبة السعودية، إلى العراق الذي ينزلق شيئاً فشيئاً إلى حرب أهلية طائفية جديدة، وصولاً إلى استمرار الصراع المدني في مصر، والتي تشهد انهياراً اقتصادياً حوَّلها إلى ثقب أسود لمليارات الدولارات من الأموال السعودية.
ولإن كان قد شاب إدارة أوباما العديد من الأخطاء إلا أن بندر والسعوديين لم يكونوا أبرياء تماماً.
وفي حين أمضى الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، حياته ينفق مليارات لا تحصى من الدولارات في محاولة لتعزيز رؤيته الإستقرار في المنطقة، إلا أنه لم يحصل على ما دفع لأجله، فقد فاجأ “الربيع العربي” السعوديين وأرعبتهم الفوضى التي تسبب بها، من دون أن يتمكنوا من إيجاد أي وسيلة فعالة لاستعادة الهدوء.
حتى أن السعوديين خذلوا رجالهم في لبنان مراراً وتكرارا في مواجهة الإيرانيين وحليفهم “حزب الله”، وعندما ترك بندر منصبه كسفير في واشنطن في العام 2005، وتولى منصب مستشار الأمن القومي للملك، أول ما قام به في العام 2006، كان تشجيع الإسرائيليين من وراء الكواليس في حربهم الشرسة على “حزب الله” في جنوب لبنان، والتي انتهت بخروج الحزب بصورة المدمى الذي لا يقهر، مكتسباً مصداقية أكبر من أي وقت مضى.
وروج بندر لبعض الوقت، على عكس رؤيته للبنان، لسمير جعجع، قائد سابق لميليشيا مسيحية مارونية وحشية، ليكون الرئيس المقبل للبلاد، وقد اشتكى العديد من أمراء الحرب الآخرين في لبنان والذين كانوا يعملون مع بندر من أنه لم يعد باستطاعتهم الوصول إلى رئيس المخابرات السعودية عن طريق الهاتف، وقد اختفى لعدة أيام في حينها، حتى أن البعض في بيروت أشار إلى أن عبدالله قال أنه لا يريد أن تذكر كلمة “لبنان” في وجوده.
اضطلع بندر بدور أساسي في إقناع الكونغرس الأميركي لبيع مقاتلات أميركية إلى السعودية بقيمة تبلغ مليارات الدولارات على الرغم من الإعتراض الإسرائيلي في العام 1970، الأمر الذي وضعه في مرتبة الرسول الموثوق الذي كان يدير التواصل بين الرئيس الأميركي جيمي كارتر وولي العهد السعودي الأمير فهد في ذلك الوقت.
خبر فهد جيدا التناقضات الأساسية في العلاقة بين أرض الحرية وبيت آل سعود، فالولايات المتحدة قد تكون أكبر مستهلك للطاقة في العالم والسعودية أكبر منتج للطاقة، غير أنه خلف هذه الحقيقة قليل من المصالح تتلاقى بين الجانبين.
ويذكر الكاتب باتريك تايلر في كتابه “عالم من المتاعب: البيت الأبيض والشرق الأوسط، من الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب” أن الأمير فهد قال لبندر الشاب: “الولايات المتحدة هي الخطر الأكبر بالنسبة لنا”، ويضيف “ليس لدينا اتصال ثقافي معهم… لا علاقات عرقية… لا علاقة دينية… لا علاقة لغوية… لا علاقة سياسية”.
العلاقات الشخصية الوثيقة كانت هي المفتاح لتوثيق وتوطيد العلاقات بين البلدين، وكان بندر هو الرجل الذي أنجز هذا العمل، فكانت له أمسيات أسطورية في واشنطن. يقول تايلر وراء الكواليس، على ما يبدو، لم يكن هناك شيء تقريبا لم يفعله لتدعيم محور الرياض-واشنطن.
وحين اجتاح الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين أراضي الكويت ولاح في الأفق تهديداً جدياً للسعودية، وجد بندر طريقه إلى الولايات المتحدة سائلاً إياها إرسال جنودها إلى بلده للقيام بعملية “عاصفة الصحراء” بغية إخراج حسين من الكويت وإزالة التهديد عن المملكة.
وعندما بدأت الإدارة الأميركية برئاسة بوش الإبن التحضير لحرب مع العراق، حذر وقتها الأمير بندر من عواقب مثل هكذا حرب، فالسعوديون يعلمون أن القضاء على نظام صدام حسين من شأنه أن يقوي إيران، وهو ما حصل فعلا، و”إذا كانت أحداث 11/9 (الحادي عشر من أيلول) أخرجت العلاقة الأميركية السعودية من حالها المتميزة، إلا أن الإجتياح الأميركي للعراق قتلها” يقول لاسي.
وتابع بندر نقل الرسائل من وإلى الرياض وواشنطن حتى بعد تركه منصب السفير في واشنطن العام 2005، وقد كان واضحاً أن العالم وعالمه قد تغير، خصوصاً مع الألم الذي يعاني منه في الظهر جراء سقوط طيارته عندما كان طياراً، إضافة إلى تقدمه في السن حيث أنه في بداية الستين من عمره.
وبحسب مصادر سعودية مقربة من بندر، فإن الأخير أخبر الملك عبدالله في السنة الماضية، أنه قادر على إيجاد حل للوضع السوري خلال أشهر معدودة، وهو ما لم يستطع القيام به رئيس المخابرات السابق والأخ غير الشقيق لعبدالله الأمير مقرن، إلا أنه تبين في ما بعد أن بندر لم يحقق مزيداً من التحسن.
يقول أحد السعوديين الذين عملوا بشكل وثيق مع بندر أن “مهامه كانت تتطلب منه القدرة على العمل 18 ساعة في اليوم وهو لم يكن قادراً على فعل ذلك”.
إنه محبط وغاضب وحريص على أن يظهر للعالم قدرته على تحقيق ما يبدو مستحيلا، كما كان يفعل في الماضي، لكن المصدر السعودي يضيف “الغضب ليس جيد في مجال الاستخبارات”، وفي الشرق الأوسط اليوم، الوقاحة فقط لا تكفي.
سيريان تلغراف | دايلي بيست