كَبُرَ مقتاً … بقلم يحيى محمد ركاج
دخلت أحداث الربيع االدجال والمسمى تضليلاً وتشويهاً بالربيع العربي عامها الخامس، وقد سقطت خلال هذه السنوات العجاف من عمر أمتنا أقنعة كثيرة، وتلاشت معها طموحات أكثر، فافتُضِحَ أمر جماعات وحُيدت أخرى، وتسلق من تسلق ليبقى المواطن العربي رهين القيدين، فلم يتمتع بحريته التي وعدوه بها لا في أنظمة الحكم التي فُصّلت على مقاسات الغرب المستعمر، ولا باستقلاليته التي وُعد بها إن غرد خارج وطنه الذي يحتضنه ويلملم جراحاته، ليبرز بشكل واضح خلال الأحداث الماضية من عمر المنطقة مثقفون يتحركون بأوامر أسيادهم، ورجال دين يبدعون في الفقه والاجتهاد الفقهي والفتاوى خدمة لأمرائهم وملوكهم، وثوار لا يفقهون من معنى الثورة والأخلاق الثورية إلا الدم والدمار.
ولعل الطامة الكبرى كامنةٌ ليس فيما يريد البعض تبريره من هذه الأحداث بدواع ومبررات واهية، ولا في عدم رؤيته للحرية والسيادة التي جلبتها أمريكا وحلفاؤها لأوكرانيا في وزراء أجانب ليحكموا الشعب الأوكراني، في اختراق إنساني فاضح –بعيدا عن انتقاص السيادة لأن فاقد الشيء لا يعطيه- لمفهوم الدولة الافتراضية والمواطنة الرقمية والحداثة والتطوير, ولا في عدم رؤيته لتلاعب الساسة الأمريكيين بالأديان كما يشاؤون خاصة في مواجهة المحددات الاقتصادية والاجتماعية التي تتحكم برغبات الشعوب وميولهم، ولا في التعاطف مع الفرنسيين في الإرهاب الذي تعرضوا له مقابل دعم هذا الإرهاب نفسه في سورية، ولا في أمورَ كثيرةٍ لا يوجد متسعٌ للحديث عنها. لكن الطامة هنا في تناقض القول بالعمل فيما يتعلق بحدث راقبه المليارات من البشر يقوم على امتهان كرامة الإنسان وحياته وشرفه، الأمر الذي تجلى فيما شاهده البشر من تشرد وبؤس عاناه السوريون المهجرون في الخيام في كل من الأردن وتركيا ولبنان، وفيما يعانيه السوريون المهجرون إلى أوروبا ابتداءً من مخاطر الوصول وذله وصولاً إلى فقدان القرار في حرية الإقامة والتنقل والحياة.
لقد شاهدت شعوب العالم أجمع معاناة الشعب السوري المهجر بفعل الإرهاب الذي دعمته دولهم تحت مسميات باطلة بالثورات والحريات والربيع العربي، وشاهدوا كيف يتصارع هذا الشعب مع ذل الإقامة في المخيمات في فترة تعرض بلاد الشام للعواصف والمنخفضات الجوية، وقد أدركت هذه الشعوب أن ما عاناه السوريون كان بإمكان الدول الداعمة للإرهاب- تحت ستار دعم الشعب السوري لنيله حريته وحياة أكثر ديمقراطية- تجنيبه إياها بتكلفة أقل بكثير من تكلفة تمويل الإرهاب الذي لا زالوا يدعمونه، لكنهم لم يفعلوا.
والأسوأ من ذلك أن مؤتمرات الذين يدعون تمثيل الشعب السوري تحت مسميات المعارضة تعقد في أفخم الفنادق والمطاعم وتقام اجتماعاتهم على أفخم اليخوت في رحلات بحرية في رفاهية ما بعدها رفاهية وعلى نفقة هذه الدول المحرضة على سفك الدم السوري تحت مسميات الدعم، في حين يموت الأطفال الذين يفترض أن تمثلهم هذه الفئات المسماة معارضة دون وازع أخلاقي أو ديني وحتى دون شرف سياسي من جراء معاناتهم من البرد القارس الذي حل بهم نتيجة العواصف التي ألمت بالمنطقة باسم (زينة أو هدى) ولم يكونوا بحاجة إلا إلى نفقات أدنى بكثير مما يتم إنفاقه على تلك المؤتمرات والاجتماعات والسلاح المقدم.
وقد كنت أحد المتوقعين أن يُقدم لهؤلاء المهجرين قليلٌ جداً من الدعم تحت مسميات إنسانية لكنها في الحقيقة تخفي طمع بعض أمراء وحكام وأثرياء الدول الداعمة للإرهاب في سورية بالتزوج أو شراء القاصرات الذين زادت معاناتهم وبؤسهم نتيجة هذه العواصف، لكن هذه الحالات أيضاً لم تبرز قبل قدوم العاصفة، الأمر الذي يفسره البعض بتريث هؤلاء بتقديم هكذا دعم مخزٍ لحين زوالها حتى تكون حصيلتهم أثمر وأسهل.
لقد استضافت سورية وحدها ملايين المهجرين واللاجئين والنازحين من معظم البلدان التي تعرضت لنكبات، ولم تسمح لأي من القادمين إليها أن يطلب أو يتسول من جواره شيئاً، لقد قدمت لهم المأكل والملبس وكل ما تتطلبه الحياة الكريمة لبقائهم في أرضها وسهلت لهم عودتهم إلى بلدانهم عندما رغبوا بذلك في حين علينا نحن أن نترقب من دول الجوار في الأيام القليلة القادمة أن يقوم أشخاص من على المنابر بتوبيخ من عانى من العاصفة التي ضربت منطقتنا متهماً إياهم بالتشبه بالنساء والضعف والخذلان لأنهم رضخوا لعاصفة اسمها أنثوي فلا ولاية للنساء على الرجال يا معشر أنصاف الرجال، خاصة أن إطلاق أسماء النساء على الأعاصير كما يتم تداولها كانت تيمناً بأسماء زوجات وصاحبات خبراء الأرصاد الجوية العسكريين في الحرب العالمية الثانية منعاً من تكرار الأسماء،أم ترتفع الأصوات للتزوج من السوريات المقيمات في الخيام بدافع السترة وتخفيفاً لمعاناتهمن من الأحوال الجوية التي تصيب المنطقة، أم أن علينا أن نمنع تكرار أخطائنا في التوقع من أن يحمل أنصاف الرجال ذرة من الشرف والنخوة والكرامة.
لقد كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون فهل لا يزال بعض المغفلين يصدقون هؤلاء بدعمهم للشعب السوري.
ولمن لن تصله هذه الكلمات لأنه يقيم في المخيمات التي تمنع وصول مثل هذه الكلمات إليهم، لكن عسى أن ينقلها لهم أحد ما: عودوا إلى أوطانكم وتفاخروا بأنكم تنتمون لبلد لم يقم خيمة لوافد أو لاجئ أو مهجر، ولم يمت على أرضه أحدٌ من هؤلاء برداً أو جوعاً أو يتعرض للاغتصاب والزواج بالإكراه، ولتتفاخروا بأنكم تنتمون إلى بلد صامد كريم مسامح.
سيريان تلغراف | د. يحيى محمد ركاج
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)