لعبة المدن المتروكة .. بقلم يحيى محمد ركاج
قام حصان الإرهاب (داع ش) بعدد من الحركات والتنقلات الناجحة على رقعة شطرنج الطاقة والغاز والمياه في منطقتنا العربية، فاستطاع بتحركاته المميزة ووثباته المفاجئة أن يُسطِّرَ وهمَ القوة الذي أخاف الجميع منه، فكان لمحركه الأمريكي النظرة الثاقبة تلو الأخرى في تحريكه وصناعة وهمه بتأخير افتضاح أمره وذلك من خلال القيام بعدد من الوثبات المفاجئة ابتداءً من وثبة مدينة الرقة التي اعتمدت شراء الذمم والولاءات وأعلنت رسمياً ولادته القوية وصولاً إلى وثبة شراء الذمم العراقية واحتلال مدنهم وبناء تحالفات جديدة وتسهيل الإعلان الرسمي عن وجود سلاح ثقيل يُبرر العالم أجمع استخدامه في إسقاط مقر قيادة الفرقة 17 دون توريط دول بعينها في تمويله أمام الرأي العام المسيَّس من قبل الغرب بعد أن كاد صمود هذا المقر من شأنه أن يفضح وهمه ويكشف اعتماده على عناصر الشركات الأمنية وأجهزة المخابرات الغربية، ليأتي أسلوب تحريك هذا التنظيم باتجاه رسم خارطة صناعة القوة فكانت توجهاته للواء 93 ثم مطار الطبقة وصولاً إلى مدينة عين عرب السورية.
فإذا كنا جميعاً نتفق على مضمون الهدف الأمريكي الرئيس من وراء الأحداث في المنطقة، ونتفق أيضاً على استراتيجية الاحتواء البديلة التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية عند كل عقبة تعترض إجراءاتها الجزئية لتحقيق هدفها الرئيس، فإننا نستطيع أن نعرف تحركات هذا التنظيم عند كل تأخر زمني يعترض مسار اللاعب الأكبر من أجل تحقيق هدفه، خاصة أن مسار الأحداث في مدينة عين عرب السورية وصمودها الذي قارب على فضح التنظيم بعد تصنيفه ضمن التنظيمات الإرهابية أممياً ،الأمر الذي يوحي بوثبات قصيرة وسريعة له قبل نهايته كأداة إرهابية وولادة بديل له في المنطقة، ولكن الوثبات في هذه المرة لن تكون جغرافية فقط بقدر كونها ذات بعد جيو-ديموغرافي بارز، ابتداء من الديموغرافية الكردية مروراً بتصفية العشائر والأقليات المناهضة للمشروع الصهيوأمريكي بالمنطقة وأداته التركية، وصولاً إلى تطويق الجغرافية السورية وإشغالها في مربعات متباعدة مكانياً ذات أهمية لوجستية تحقيقاً لإستراتيجية المدن المتروكة والإشغال.
وبغض النظر عن تسمية الإستراتيجية البديلة التي تعمل الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة على تحقيقها، فإن مضمونها يقوم على تلازم الشق الديموغرافي مع الشق الجيوستراتيجي بما يحققه الأول من استنزاف للنافذة الديموغرافية السورية واستثمار هذا الاستنزاف كأداة طيعة في مواجهة حرب الديموغرافية الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها ضد دول منظومة البريكس عموماً، والفيل الهندي والتنين الصيني على وجه الخصوص. وبما يقوم عليه الثاني من إشغال وإخراج مناطق إستراتيجية متباعدة خارج الحسابات السورية لفترة طويلة زمنياً، الأمر الذي يقود إلى ضرورة التكيف المرحلي على الاستمرارية دون بعض هذه المناطق، فيتم العمل على سلخها تدريجياً تحت وطأة التكيف وأولويات المرحلة الراهنة كما حدث سابقاً مع لواء اسكندرون وفلسطين وغيرها وهو ما تؤكده أحداث لبنان والعراق والجولان السوري، ويقود في النهاية إلى جغرافية سياسية تكرس القوة المتكاملة للكيان الصهيوني وتحقق له التفوق الديموغرافي في المنطقة كقوميات وأقليات.
إن إطالة استنزاف المكون السوري في مدينة عين عرب السورية يأتي في سياق تصحيح الأخطاء المرتكبة عند تطبيق هذه الاستراتيجية في مدينة الرقة السورية التي يخرج منها يومياً -في سياق التضليل الإعلامي الموجه لتضليل الرأي العام- الكثير من التناقضات والتي يكرس بعضها دعم التنظيم الإرهابي كمركز إداري وحضاري لدولة الخلافة المزعومة، ويكرس أغلبها الجرائم العنصرية لهذا التنظيم الإرهابي ويفضح ارتهانه لتحقيق المشروع الصهيوأمريكي بالمنطقة.
إن مدينة عين عرب السورية تسطر الآن نهاية (داع ش) كوهم للقوة المصنوعة أمريكياً بتمويل خليجي، فهل نشهد في الأيام القادم ولادة تنظيم جديد، أم أننا نشهد مرحلة تحول في آلية موت التنظيم الإرهابي (داع ش) لينبثق بدل عنه (داع ش) الكيان، خاصة أن سورية تدرك مضمون لعبة المدن المتروكة واستراتيجية الإشغال التي لعبتها سابقاً تركية خليفة العثمانيين والاحتلال الفرنسي، الأمر الذي سوف يُدخل بعض دول الخليج في لعبة المدن المتروكة، وعندئذٍ لن ينفعها الندم.
سيريان تلغراف | د. يحيى محمد ركاج
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)