رقصة الشيطان وسيمفونية أوغاريت .. بقلم يحيى محمد ركاج
تشهد منطقة شرق المتوسط عموماً وسورية على وجه الخصوص حرباً عالمية من نوع مغاير للحربين العالميتين الأولى والثانية التي شهدهما العالم أجمع في القرن الماضي، لكنها تتشابه معهما في نزعة الولايات المتحدة في السيطرة على موارد الطاقة والغاز وقيادة العالم، فالولايات المتحدة الأمريكية دخلت الحرب العالمية الأولى بعد سنوات من حيادها المزعوم نحو المشاركين بها، وفي لحظات وهن القوى المتحاربة عبر حادثة استهداف السفينة الأمريكية المزعومة، وتحت ضغط طبيعة اقتصادها والقروض والائتمان دخلت ميدان الحرب، فكانت النتيجة أن وصلت الولايات المتحدة إلى المكانة الأولى تدريجياً في العالم ولم تتنازل عنها بعد ذلك.
وبآلية مشابهة لما جرى في الحرب العالمية الأولى دخلت الولايات المتحدة نفسها في الحرب العالمية الثانية، بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي روزفلت الحياد الأمريكي بالنسبة للحرب والمشاركين بها، ثم ما لبث أن اتُخِذَ قرار الدخول في الحرب في فترة وهن المشاركين بها، وتحت تأثير المغريات الاقتصادية المشابهة للضرورات الاقتصادية التي عجلت بدخولها الحرب العالمية الأولى.
إن الظروف والمعطيات العالمية في هذه الأيام مشابهة كلياً للظروف التي دخلت بها الولايات المتحدة الحربين العالميتين السابقتين، من حيث الظروف الاقتصادية التي تحاصر الولايات المتحدة، ومن حيث سيطرتها المطلقة على القرار العالمي، ولكن بطريقة مختلفة عن سابقاتها، وباستراتيجية أمريكية للتدخل مختلفة أيضاً عن سابقتها بما يتناسب واختلاف الحرب، لأن الشيطان نفسه هو من رتب الأحداث في هذه المرة بمرونة ودهاء أكبر من السابق.
فالشيطان الأمريكي لن يرضى أن يشاطره أحد القرار العالمي وإن اضطر إلى خوض حربٍ عالميةٍ من نوع جديد، لذلك عمد إلى إطالة فترة الصراع في محيط المناطق التي قد تنازعه في السيطرة على القرار العالمي، فكانت أحداث أوكرانيا استنزافاً طويلاً للقوة الروسية التي على ما يبدو أن قيصر روسيا يدرك مغزاها تماماً، وكذلك الأمر في إضعاف القوة الاقتصادية المسيطرة على أسيا وأفريقيا، وفي إيجاد بدائل لحلفاء خط نابوكو للغاز، وفي التنظيم السحري (داع ش) الذي تحول بفترات قصيرة من وهم إلى واقع، ومن وهن إلى أيديولوجيا طويلة الأمد تخدم المصالح الأمريكية بأكثر مما خدمها الكيان الصهيوني نفسه عام 1967.
إن تأخر الشطيان الأمريكي عن تحقيق مأربه رغم نسجه خيوط اللعبة بعناية فائقة وتحقيق بعض المكاسب في القطر العراقي كان نتيجة السيمفونية الأوغاريتية التي يقودها المايسترو السوري. فمن هدوء أمريكي يحيك الدسائس إلى المطالبة بإخلاء مقام رئاسة الجمهورية السورية، إلى تخبط في القرارات والدعم بين المقدرة على توجيه ضربة عسكرية أم لا، إلى الملف الكيماوي السوري، إلى تطوير (داع ش)، إلى مفترق الطرق القائم الآن على التشارك أو التحالف من أجل استهداف صنيعته الإرهابية، إلى الأبجدية السياسية السورية التي تحتفظ بالسيادة واستقلال القرار، إلى الهجمات الاقتصادية التي تقودها البريكس وفي مقدمتها روسيا، إلى بدائل التمويل وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الخاص بدول البريكس وإمداد الغاز، إلى معطيات جديدة تُطيل عليه أمنياته وتفتح الباب أمام خيارات أخرى.
فصمود الشعب السوري وعمليات جيشه الباسل وتبديل مواقعه بين الضمير والرقة والطبقة ودير الزور وحلب ودرعا والقامشلي وغيرها من المناطق، وما رافقها من تصريحات وزارة الخارجية السورية وردها على ما يتم نسجه بالخفاء قبل العلن من جميع الدول بلا استثناء، والتحالفات الجيوستراتيجية مع سورية، تعتبر مجموعة عوامل لها الوزن الرئيس في أي بديل للتشاور مع سورية يطرحه الشطيان الأمريكي من أجل القضاء على الإرهاب المصنع للمنطقة. يقابله أن التفرد بالتحالفات مع دول الاستعمار من أجل استهداف الإرهاب في سورية دون تنسيق مع سورية يعتبر بمثابة عدوان لن تتركه الجمهورية العربية السورية وحلفائها دون تعامل يناسبه وفق لاستراتيجية الاحتواء الأمريكي نفسها، كما أنه قد يعرض كافة المصالح الأمريكية في المنطقة لخطر احتوائها. كما إن أي تنسيق وتشاور مع سورية سوف يفقد الشيطان الأمريكي عنصر إحلال مواليه في الأماكن التي يستهدفها لما شاهده من براعة في القيادتين السياسية والعسكرية السورية في قراءة أحداث المنطقة.
فالقرار الأممي رقم 2170 الذي سعت أمريكا لاستصداره خدمة لأطماعها يصطدم الآن بالمعرفة السورية بإمكانية تطبيقه دون عناء، ويصطدم أيضاً بأن سياسة القروض والتمويل الأمريكية لإعادة إعمار المنطقة لم تتهيأ لها الأرضية الخصبة بعد. لذلك إن قطع التمويل عن التنظيمات الإرهابية من خلال بيع البترول المسروق إلى سماسرة ووسطاء أمريكيين أو حلفاء لهم، ومنع تصدير النفايات البشرية إلى سورية للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية والذي يتم بمراقبة شبكات التجسس الأمريكية وشبكات التجسس الحليفة لها، وإعطاء إحداثيات تجمعاتهم، ومراقبة التحويلات المصرفية عبر المصارف الغربية، كفيل بالقضاء على الإرهاب الموجود في أغلب بقاع العالم دون أي خسارة تذكر لثروات الشعب الأمريكي أو حتى ثروات شعوب العالم التي يفترض أن تخصص لإحياء البشر لا لقتلهم.
إن العالم الآن يترقب رقصة الشيطان في إطالة استثمار الإرهاب المسمى (داع ش) على أنغام سيمفونية أوغاريت التي انطلقت تحمل للعالم حروفاً من نور، فهل تنتظر الشعوب سحر شيطان الشر للفتك بسعادتها، أم عليها أن تتلقف النور المنبثق من أبجدية أوغاريت وتسانده.
سيريان تلغراف | د. يحيى محمد ركاج
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)