حلقة عرسال … مشهد يكرره الأرذال .. بقلم يحيى محمد ركاج
بُنيت فكرة الإستراتيجية الأميركية التوسعية خارج حدودها على تفكيك الحكومات والأديان وجعلها كيانات صغيرة متناحرة فيما بينها، يتم العمل على تسليحها وإثارة الفتن والخلافات وإثارة النزاعات والصراعات فيما بينها، وقد جسدت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الإستراتيجية منذ عام 1776 إلى يومنا هذا، فكانت منطقتنا العربية إحدى أبرز المناطق التي طُبقت فيها بين الحين والآخر مع تغير في آليات تنفيذها تارة، وفي أماكن بدايات التنفيذ وتوقيتها تارة أخرى، وما يحدث في هذه الأيام في أحداث دمشق وبغداد وغزة وعرسال إلا تجسيداً دقيقاً لها.
ففي حوادث ليست بعيدة بالحيز الزمني والتاريخي لدول منطقة الطوق نلاحظ أن انتصار حرب تشرين /أكتوبر/ 1973 أعقبه تحييد مصر وإخراجها خارج الصراع العربي الصهيوني لتبقى سورية وحدها تحمل تكلفة هذا الصراع، ثم ما لبث المحور الصهيوأمريكي أن عمل على استهداف لبنان بحرب أهلية استنزفت المقدرة والموارد السورية، وصولاً إلى إخراج العراق وإيران من دعم الحرب مع الكيان الصهيوني إلى مواجهة فيما بينهما، واغتيال العديد من القادة الفلسطينيين المناضلين في تلك الفترة.
وفي أحداث الثمانينات وفتنة الأخوان المسلمين ومحاولة تدميرهم لسورية، قام الكيان الصهيوني أيضاً بمحاولة لنسف المسجد الأقصى من قِبل منظمة “كاخ” اليهودية المتطرفة، وأتبعها بمجازر (داراس ودير أيوب والرملة) عام 1980، ثم تلاها في عام 1981 ضرب المفاعل النووي العراقي، وتبعها مباشرة غزو لبنان واحتلال الجنوب واتفاقية الإذعان عام 1982 وارتكاب مذابح صبرا وشاتيلا.
وعقب أحداث 11 أيلول / سبتمبر المفتعلة نتيجة الحاجة الأمريكية للوصول إلى ثروات النفط والطاقة والذهب لدعم الدولار الذي كاد أن يصبح رمزاً للاستهزاء بين دول العالم في حادثة مشابهة لحادثة الفرنسي ديغول في نهاية الستينيات من القرن الماضي، تم ارتكاب مجزرة جنين مع تهديد العراق وإسقاطه، ومن ثم التهديد المستمر والحصار على سورية واغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، وتبعها بعد ذلك التهديد والوعيد لسورية بعد أن تم تدمير العراق كلياً ثم استهداف حزب الله وغزة، وفي كل مرة كان محور الصمود هو الجمهورية العربية السورية وشعبها وجيشها، بعد أن كان محور القوة يتثمل –قبل سقوط بغداد وبعد استبعاد القوة المصرية من المواجهة- بالجيشين العربيين السوري والعراقي.
وما تشهده الجمهورية العربية السورية في هذه الأيام من اعتداءات وتحالفات أكثر بكثير مما تعرضت له في الفترات الماضية قاطبة، وبالسيناريو نفسه، حيث الاستهداف للساحة العراقية، ثم لبنان وفلسطين.
بقراءة متأنية لما يحدث في المنطقة من تفاصيل وجزئيات تشير صراحة إلى أسلوب الكوربورقراط الأمريكي في حلته الجديدة في التعاطي مع الحدث، مع تغيير بسيط في الأدوات وتغيير جذري في الترويج والتسويق، لم يعد الاستهداف الصهيوأمريكي المباشر للقوى العربية المقاومة كما كان يتم بالسابق عبر الولايات المتحدة الأمريكية أو الكيان الصهيوني، بل أصبحت تتمّ الاستعانة ببعض القوى الناعمة لتدمير الجيوش والدول، وفي المناطق التي لم تتمكن الولايات المتحدة وربيبتها الصهيونية من استخدام هذه القوى كان لابد من توجيه الارهاب إليها بمسميات مختلفة، أو استهدافها مباشرة.
إلا أن الصمود السوري في هذه الفترة، وقوة الجيش العربي السوري وترابطه وعقائديته التي أضحت أنموذجاً يقتدى به في جيوش العالم، جعلت استهداف الدول الأخرى من لبنان والعراق وسورية يكون أشرس مما سبقه، الأمر الذي ينظر إليه في مجال الإستراتيجية الأمريكية من جانبين خارجي وداخلي، فقد لا يتحقق البعد الخارجي لأهدافهم بدقة كما يخططون، لكن الدول المعتدية تكون قد حققت غايتها الداخلية التي تسعى إليها أمام شعوبها، ومررت بعضاً مما يتيح لها الاستمرار بالتدخل على المستوى الخارجي.
ومهما تكن النتائج التي حققتها هذه الدول فإن بعض الحقائق لابد من الاعتراف بها وتتمثل في:
أولاُ: إن صمود الجيش العربي السوري وعدم تمكن المعتدين من تحويل الجمهورية العربية السورية إلى دولة فاشلة كان النقطة الرئيسة في التبدلات التي حدثت على أدوات وطرائق تنفيذ إستراتيجيتهم الصهيوأمريكية، مما دفعهم أكثر لاستخدام دول الجوار من أجل استنزاف القوة السورية ومقدرتها الكبيرة على المواجهة والصمود، ومن أجل تبييض بعض الأرصدة السياسية لبعض القادة والزعامات التي عملوا على صناعتها.
ثانياُ: إن عمالة بعض من يسمون قادة في العالم العربي كانت وراء كل تجرؤ قام به المحور الصهيوأمريكي في الفترات الماضية، والعمالة القذرة وغير المستترة في هذه الأيام هي أحد أبرز أسباب شراسة الأدوات التنفيذية لهذا المحور.
ولا بد أن ندرك أن وحشية المشاهد التي يروج لها الإعلام الأمريكي ومن والاه في دعم مستتر وعلني للإرهاب، وتعظيم قوة بعض الكيانات الموالية لها، ليس إلا مشهد من مشاهد الحلقة التي تهيئ الأرضية لزعامات أمريكية بواجهة عربية من جهة، ومن جهة أخرى تبرر التدخل الأمريكي المباشر في المنطقة تحت مسميات مختلفة قد لا نكون نعلم كل مسمياتها الآن، لكننا ندرك مضمونها وأهدافها، وهو لم ولن يتحقق بوجود دولة قومية قوية كسورية وجيش قوي باسل كجيشها.
سيريان تلغراف | د. يحيى محمد ركاج
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)