الجمهورية السورية الثانية : ماذا سيغيّر الأسد؟
قال وزير الخارجية السورية وليد المعلم أمس: «اليوم سيبدأ مسار الحل السياسي للأزمة، ويبدأ إجراء المصالحة الشاملة». لم يُعرف عن هذا الدبلوماسي السوري العريق إطلاق كلام انفعالي. هو، لا شك، فكّر بكل كلمة يقولها أثناء إدلائه بصوته الانتخابي. ما قاله هو العنوان الأول لمرحلة سياسية تصالحية ستبدأ بوادرها بالظهور قريباً.
بعد 3 سنوات من الحرب ودمار البشر والنفوس والحجر، تفترض المرحلة المقبلة خطة شاملة للإنقاذ. يُحكى عن مخططات هندسية جاهزة لإعادة إعمار بعض المدن والمناطق. يقال إنّ عقوداً وقعت أصلاً مع شركات مهمة. جرى الإعداد، أيضاً، لسلسلة من القوانين المتعلقة بالعفو وكيفية إدماج مسلحين في الجيش أو الدفاع الشعبي. يحكى عن قوانين إصلاحية تتعلق بعدد من القطاعات الخدماتية والوظيفية والتنموية والاقتصادية.
لكن ماذا عن السياسة؟
ينطلق تحليل القيادة السورية الحالية من ثلاثة عناوين بارزة: أولاً، أنّ ما كان يمكن قبوله قبل الحرب وقبل مشاهد الناخبين في الخارج والداخل ما عاد مقبولاً الآن. التضحيات كانت كبيرة جداً لإنقاذ سورية. ثانياً، أن الحل السياسي يعني دمج كل أطياف المجتمع السوري في الحلول المقبلة، لكن تحت سقف الدستور والدولة الحاليين. ثالثاً، كل ما يمكن تطويره هو شكل الحكومة بحيث تضم معارضين «مقبولين من الشعب». هذا يعني أن لا مجال للحديث عن سلطة تشاركية، لا مع الائتلاف المعارض ولا غيره من معارضي الخارج.
تعتبر القيادة السورية الحالية أن ما تم تقديمه من إصلاحات عبر تغيير الدستور والاستفتاء عليه وإلغاء المادة الثامنة وغيرها كان كافياً لإقناع الجميع بإلقاء السلاح والتحاور. لكن بدل التجاوب مع الأمر ازداد «التآمر».
أما الآن، أي بعد تغيير المعادلة العسكرية و«كسر شوكة التدخلات الخارجية ونجاح التجربة الانتخابية»، فإن المعارضة الخارجية التي تعاملت مع «أعداء الوطن» ما عادت مقبولة، إلا إذا أعلنت تخلّيها عن الدعم الخارجي والعودة إلى كنف الدولة والعمل تحت سقف الدستور.
هذا هو المقصود بالمصالحة الشاملة. مقصود أيضاَ تعزيز وتيرة التفاهمات الداخلية. كل منطقة قابلة للمصالحة وإيقاف الحرب فيها وعودة الناس إليها ستصبح أولوية. يبدو أن هذا المشهد سيتكرر ويتكثّف في المرحلة المقبلة. تشارك في الأمر أطراف داخلية، ولكن ثمة أطرافاً أخرى تساهم في فتح القنوات. من غير المستبعد الآن، مثلاً، أن نرى أحد مموّلي المسلحين في درعا يجري اتصالات هاتفية من الامارات العربية (حيث يقيم)، أو من دول غربية أخرى، بحثاً عن تسويات. التجاوب مع مساع كهذه واضح، وسيتكثّف بعد الانتخابات.
من المتوقع، أيضاً، أن تشهد المرحلة المقبلة محاولة لكسر المعادلة المذهبية التي برزت خلال الحرب. لن يكون مستغرباً بروز أسماء لها وزنها في التركيبة المقبلة. من شأن ذلك القول إن من كان يحارب في السنوات الثلاث الماضية، ومن يساهم الآن في الحل السياسي، ليس العلويون وحدهم، وإنما كل الطوائف السورية. يبدو من خلال الإحصاءات الأولية للانتخابات أن الطائفة السنية، مثلاً، أقبلت بشكل لافت على التصويت.
انطلاقاً مما تقدم، يبدو الرئيس الأسد مدركاً لصعوبة المرحلة المقبلة. الحرب أحدثت شروخاً كبيرة في المجتمع السوري. الجيران قاتلوا الجيران. قرى ذبحت قرى مجاورة. لا يمكن، بالتالي، التعامل مع المرحلة المقبلة على أنها تجري في دولة عادية وفي ظروف انتخابية عادية. كل شيء استثنائي ويتطلب حلولاً استثنائية. الهدف الأول هو تعزيز ثقة الناس بالجيش والدولة. هذا يفترض أن كل منطقة جرت فيها مصالحة وخرج منها المسلحون ستكون لها أولوية في استعادة مظاهر الحياة. يفترض، أيضاً، تشجيع الناس على رمي السلاح من دون خوف من عقاب.
في الاستراتيجية المقبلة رغبة في القول، إن الانتصار حصل على رؤوس المؤامرة وعملائها في الخارج، وإن من في الداخل تم التغرير بهم، ويجب أن يعاملوا على هذا الأساس. أما من ارتكب فظاعات وجرائم وينتمي إلى فكر إرهابي تكفيري، فهذا لا مجال للحوار معه إلا بمنطق الحسم العسكري. من المنتظر في المرحلة المقبلة، إذاً، أن تتوازى خطوات الاصلاح والمصالحات والحلول السياسية مع استمرار المعركة على الأرض.
ترى القيادة السورية أن امتحان الانتخابات نجح بأكثر مما توقعت. تقول إن خروج الناس إلى الصناديق تحت القصف والرصاص كان رسالة واضحة لمن يريد أن يفهمها. يبدو أن ما حصل أمس عزّز قناعة هذه القيادة بأن المرحلة المقبلة هي لصالحها مهما كانت صعبة.
لا شك في أن ما سيقوله الأسد بعد الانتخابات في أول إطلالة له، سيؤكد أن سورية باتت بعد انتخاباتها في مكان آخر تماماً. ثمة من يحلو له القول إنّ المرحلة المقبلة ستؤسس لـ«الجمهورية السورية الثانية».
يبقى السؤال الأهم الآن: هل سيترك المحور الآخر سورية وحلفاءها يسيرون فعلاً صوب الحسم العسكري؟ وهل لا يزال قادراً على منع ذلك لو أراد، أم أن العالم سيقبل بالنتائج حتى ولو شجبها ويتعامل مع عودة الأسد الى ولاية ثالثة على أساس انها أمر واقع؟ ربما سيتعامل معها كأمر واقع. مكافحة الإرهاب باتت أولوية وليس أي أمر آخر.
سيريان تلغراف