إبيقور السوري .. وتيه نبلاء العلمنة في زواريب الطوائف .. بقلم نمير سعد
إن من يبحر قليلاً أو كثيراً في الماضي ويتنقل بين جنباته سرعان ما يكتشف أن للبلاء الذي أصاب سوريا أصولٌ عديدة ومنابع كثيرة وروافد متعددة وحوافز ومحرضات لا عد لها ولا حصر ، وأسباب جوهرية تتعلق بقيمة هذا الوطن كتاريخ و حضارة وموقع ودور . لكن أحد أهم البوابات التي ولج منها أعداء الوطن هي بوابة الدين. وإحدى أكثر نوافذه المشرعة سميةً وخطراً .. نافذة الطائفية. الطائفية التي باتت ترتدي في أيامنا هذه ملابس تنكرية ، فمرةً تختبئ خلف قناع أزهار الربيع ووروده ، ومرةً تزور عقولنا مرتديةً قبعة الثائر تشي غيفارا ، ومرةً تحل علينا و في يمناها مطرقةً كارل ماركس وفي يسراها منجل لينين ، ومرةً تباغت أعيننا وقد إرتدت ملابس المفكر اليوناني العلماني ‘ إبيقور’، أو الفيلسوف العظيم ‘أرسطو’ ، أو ‘إبن رشد القرطبي’ فتفتح “بقصدٍ أو دونما قصد” عين المفردة المضمومة ولامها الساكنة ، لتغير دلالتها ومعناها ومغزاها ،و لتصبح علوية ‘ بفتح العين واللام ‘ ، عوضاً عن علوية “بعينٍ مضمومة و لامٍ ساكنة ” ، لتكون نسخةً فلسفية معدلة تحاول محاكاة رسائل الفلاسفة الكبار في ‘ الآثار العلوية ‘ .. ولتفشل فشلاً ذريعاً و تسقط مغازيها من أعاليها و تصيب قاع وادٍ سحيق يدعى وادي الطوائف … .
وضعتني الصدفة المحضة منذ نحو ثلاثة أسابيع أمام لوحة فلسفية العنوان .. طائفية الألوان ، تتلطى في زواياها إشارات الإستفهام وتجتمع على أطرافها إشارات التعجب ، وكيف لا وقد ذيلها فلانٌ معروف “بعلمانيته ” . كانت تفاصيلها تستهدف إحدى أقليات الوطن السوري دون مواربة وتهتم لزراعة الزيتون بحماسٍ منقطع النظير . حرضت مشاعر الرفض والإحتجاج والإستنكار كثيرين على الكتابة آنذاك . إكتفيت من جهتي بتعقيباتي وتعليقاتي المطولة على ما كتب آخرون عن اللوحة الحدث ، وكان لصاحب اللوحة “المبدع ” كما لبعض من أعجب بجمالية لوحته نصيبهم من كل من واجهت عيناه مغالطاتها وظلمها وتجنيها على أقلية كريمة وراقية و قبل هذا وذاك … أصيلة متأصلة . صدفةٌ أخرى تبرع بها أحد الأصدقاء وضعتني مرةً ثانية قبالة لوحة مشابهة جداً أتحفنا بها ذات الفريق ، لكنها كانت أكثر وضوحاً من سابقتها .. قرأت وتأملت .. ومضى عقلي في حال سبيله لا يلوي على شيء .. وكأن شيئاً لم يكن .. لكن الأخبار والصور واللوحات التي وفدت إلينا في الأيام القليلة الماضية من مدينة عدرا العمالية والمجزرة الثورية التي ارتكبت فيها .. أعادت كلتا لوحتي “العلمنة” إلى صالات عقلي لتحرضني مجدداً على الكتابة . قررت أنني لا بد فاعل ، فهذا الحدث الفجائعي شكل مناسبة إضافية لقول كلمة حق ولإنصاف من يصر البعض على مصادرة أوسمة الشرف التي تزين صدورهم … .
ليس أبشع من الطائفية التي تتخفى بين مفردات خطاب علماني ، أحد “نبلاء العلمانية الحديثة” صادر ما قبل الأمس القريب أشجار الزيتون من أصحابها وأنكر عليهم جذوعها وتعرض لعزائمهم في قوتها ، وليقينهم في صدقه ، ولثباتهم في رسوخه ، ولانتماءهم .. في جذوره .. وفي الأمس القريب حاول مجدداً فرز المجتمع بطريقة “علمانية” عبر إستهدافه لغير أقلية و من خلال تهجمه على وسيلة إعلامية سورية حكومية لم يرق ربما للقائمين عليها إستضافة نيافته ،، والله أعلم … فهزأ لفكرة عرض الفضائية ما يظهر (حسب فهمه) أنه ” إستحواذ ” طائفة معينة على أكبر عدد من نياشين البطولة ، و جثامين الشرف ، و زغاريد الشهادة . وسخر من الحقائق .. الحقائق التي تعلن بعيداً عن الإعلام وعن الأديان وعن الطوائف .. عن هويات الإرهابيين وانتماءاتهم وولاءاتهم وعقيدتهم وكفرهم ، الحقائق التي تسأل : ما ذنب هذه الأقليات الوطنية وما يفوقها عدداً من شرفاء أهل الأغلبية إن كانت لم تغادر منذ الاسابيع الأولى للحرب على سوريا إلى معسكرات الذل في تركيا ؟ ، أو إلى معسكرات تجارة الرقيق الأبيض في الأردن ولبنان في مرحلة لاحقة ؟ ، ما ذنب أبناء هذه الجموع الوطنية إن كانت أحيائهم وقراهم ساحةً ومسرحاً لمعظم مجازر القتل وقطع الرؤوس ، وعلى يد فئة بعينها ،، تبرأ من كفرها كثيرٌ من أشرافها ؟ … .
يبدوأصحاب هكذا خطاب أو مفردات وكأنهم يعيشون في غير زمن وغير كوكب ، الأمر الذي يخالف حقيقة إطلاعهم على مجريات الأحداث بأدق تفاصيلها ، فهم يبدون من ناحية كمن لم يسمع بقوافل الشهداء التي تلقي تحية الإجلال كل صباح على مدن وقرى الساحل السوري ، !! أو كمن نسي أن كاميرا التلفزيون السوري ما عادت بقادرة على التجول بحرية وأمان كما في بداية الأزمة في ارياف دمشق وحلب والمنطقة الشرقية و جسر الشغور وادلب ، لتتابع مراسم دفن هذا الشهيد أو ذاك ، وأن الإعلام السوري أقلع منذ مدة عن إيراد هكذا أنباء في برامجه ونشرات اخباره .و يبدو أصحاب هذا الخطاب كمن لم يسمع يوماً إستغاثات أهالي قرى بيت الشكوحي والحمبوشية وبلوطة ونباتة وغيرها من القرى المنكوبة في ريف الساحل ، ولا هو شاهد أو تابع مشهداً أو خبراً عن ضحاياها ومخطوفيها !! ولا تبادر لذهنه الوقاد خبرٌ عن بقعةٍ في الكون تدعى حظلة ، ولا أقضت مضجعه صرخات أطفالها !! ، لم يسمع عن عشرات الكنائس والأديرة التي تم تدميرها أو حرقها أو تحويلها إلى مراكز دعوية جهادية ، ولا هو تابع شيئاً عن أنباء غزوات صدد ومعلولا ، ولا عن ثلوج الهاون الثوري التي تتساقط برداً وسلاماً على أحياء دمشق وحلب التي يسكنها أصلاؤها وزارعوا زيتونها وبرتقالها وتفاحها وسنديانها !! . يعلم أغلبنا حقيقةً أن هذا الفريق العالم بطبيعة أجنة الأحداث لا شك فعل ، وأنه على درايةٍ بكل ما يجري على الساحة السورية ، لكن مشكلته بأن بعض خطابه يشي للأسف بعكس ذلك ويرسم عديد إشارات الإستفهام والتعجب التي لا تحتاج لعميق تحليل وفلسفة . قد يأتينا احدهم غداً ليكتب ساخراً بأن من قتل أطفال عدرا وذبح أهلها يجب أن يكون حسب هذه الفضائية أو تلك ….. !! ، وأن شهداء عدرا وضحاياها يجب أن يكونوا حسب رأي هذا الفضائية أو تلك ….. !! . على طريقة الخطابات التي باتت سمة بعض هذا الفريق في فرز المجتمع السوري على أساس … طائفي …
لأهل عدرا كما لغيرها كما لكل من سرقت منه الحرب أحد أفراد عائلته أو بيته أو بستانه أو متجره أو مكان عمله وشردته ليحيا ليس كما كان قبلها ، أن يتساءل بدوره رداً على هكذا خطاب .. وماذا عساه يكون هذا القاتل يا مولانا وسيدنا ونابغتنا ؟؟ بماذا عساه يؤمن ؟ ما هي شعاراته ؟ ما هو انتماؤه ؟ . كان الأجدى لهذا الفريق “العلماني “تناول الموضوع في إطاره العام وتجاوز التوصيف الطائفي والخروج من هذه الدائرة الضيقة إلى مدارٍ أوسع و أرحب ليكون الوطن هو الحاكم والحكم والفيصل في التصنيف ، بين وطني وبائعٍ للوطن ، بين شريفٍ وداعر ، فدائي ومتخاذل ، مؤتمنٍ على التراب أم خائن له ، منتمٍ للأرض أم للدولار ، صاحب عقلٍ أم فاقدٍ له ، سوري أم صهيو- وهابي ، ثمرة الوطن أم ثمرة الفعل الحرام . دعونا نتوجه أخيراً لزوايا التفكير عند هذا الفريق لنسألهم .. هل لكم أن تحفروا وتنقبوا لنا عن إسمٍ إرهابي واحد ، تفجيري واحد ، إنتحاري واحد ، ينتمي إلى هذه الأقليات أو من زادهم وطنيةً من ملايين شرفاء غير الأقليات .. قام بتفجير نفسه في سوقٍ للخضار أو كراجٍ للحافلات ، أو مدرسة للأطفال ، أو أحد المستشفيات ، أو حاجزٍ لعناصر جيش بلاده !! ، أو حتى في صحراء تدمر ؟ هل تستطيعوا أن تتحفونا بمساعدة صديقيكم غوغل ويوتيوب بمشهدٍ واحد لجندي سوري واحد ، يذبح فيه خنزيراً ، أو بغلاً ، أو حماراً ، أوجملاً ، أو ضبعاً ، أو إرهابي ؟ والخمسة الأوائل أشرف من سادسهم … .
ألا تفترض البداهة بشكل عام وفي الحالة السورية بشكلٍ خاص أن يبتعد دعاة العلمانية ما أمكنهم عن الخطاب الذي يصنف نفسه قسراً في عقول الآخرين كخطابٍ طائفي فتنوي من خلال مفرداته التي تركز على بعض الطوائف دوناً عن غيرها ؟ ، ألا يجدر بمن يدعو إلى “علمانيته” أن يفعل دون إرتقاء سلالم أبراج أديانٍ أو طوائف بعينها ومحاولة تفجير الجسور التي تربطها بأبراج غير أديان أو غير طوائف “بقصدٍ أو بغير قصد” ؟ . ما هو الرابط بين “العلمنة “والخطاب الذي تغزو سطوره منبهات تؤجج يقظة الحس الطائفي – سيما في عقول البسطاء والسذج – بدلاً من تناوله لقضية الأديان بإطارها العام دون الغوص في مستنقعات الطوائف و قيعان الآفة الطائفية ؟ ، أليس حرياً بهذا أو ذاك العلماني أن يلعب دور رجل الإطفاء الذي يخمد ألهبة نيران الإقتتال المذهبي التي يراد لها أن تحرق الوطن ، بدلاً من تزويد الساحة المشتعل بعضها والمعد للإشتعال بعضها الآخر … ببرميلٍ من الوقود الطائفي ؟ . أليس سكان هذا الوطن في الأصل سوريون قبل أن يؤمنوا بهذا النبي أو ذاك الإله ؟ . وإن كانوا هم من سلالة الأنبياء فماذا عن أجدادهم الذين كانوا يوم لم يكن هنالك من أنبياء ؟ ؟ ألم ينشر سكان هذا الوطن حضارته في أصقاع الكون يوم لم يكن هناك يسوعٌ ولا محمد ولا أعراب ؟ يتساءل سوريون !؟.. . النصر والمجد والخلود لسوريا .
سيريان تلغراف | نمير سعد
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)