مقالات وآراء

شكرا قطر .. قريبا ستظهر عليها داخليا أعراض ما تروج له خارجيا .. بقلم مصطفى اللباد

تملأ قطر الدنيا وتشغل الناس، بعد أن تعاظم دورها باطراد منذ إنشاء «قناة الجزيرة» في منتصف التسعينيات وحتى اندلاع «الربيع العربي»، الذي أصبحت الدوحة أحد رعاته الأساسيين. استعصت قطر على التفسير والتحليل، بسبب تنقلها المستمر بين المواقع السياسية المتقابلة، من النقيض إلى نقيضه.

ما هي دوافع هذه الإمارة الصغيرة، مساحة وسكاناً، كي تلعب أدواراً إقليمية في منطقة صعبة ومتوترة وحافلة بقوى أكبر عدداً وأوسع مساحة وأعمق تاريخاً؟ كيف نفهم الهواجس القطرية النابعة من موقعها الجغرافي وكتلتها السكانية؟ ما هو التهديد الأساسي لقطر، كما تراه هي؟ لماذا تجمع قطر في سياستها كل التناقضات الإقليمية؟ وكيف يمكن تفسير تلك التقلبات المزمنة في السياسة القطرية؟ كيف تكون قطر أول بلد خليجي يقيم علاقات علنية مع إسرائيل، وتتضامن في الوقت نفسه مع لبنان في حرب 2006 فتشارك في إعادة إعمار الجنوب؟ ما تفسير تحالف قطر مع النظام السوري وفكفكة جدار العزلة الإقليمية من حوله (2005-2009)، ثم انقلابها على هذا التحالف وتقدمها الصفوف لإسقاطه بالقوة العسكرية ابتداء من العام 2011؟ لماذا تنخرط قطر الصغيرة بالوساطة في كل نزاعات المنطقة التي عجز عن حلها الكبار؟ يبدو الدور القطري الآن متحالفاً مع تيار الإسلام السياسي، وتحديداً جماعة «الإخوان المسلمين» في طول المنطقة وعرضها، ما الرابط الذي يجمع العائلة الحاكمة في قطر بهذه المروحة المتنوعة من الحركات والأحزاب والتنظيمات السياسية الإسلامية؟ ما هي جوانب القوة والضعف القطرية، وما هو مستقبل دورها الإقليمي؟ تحاول هذه الورقة الإجابة عن هذه الأسئلة الكثيرة في سياق مترابط، فتفسر ما حدث وتحلل ما هو قائم، ثم تخاطر لتستشرف ما هو قادم.

«الوساطة القطرية» ونزاعات المنطقة

ضمنت قطر حماية أمنها أميركياً كخط أساسي لدفاعاتها، ونسجت علاقات أكثر من جيدة مع إيران لموازنة السعودية وتحالفت مع مجموعة من الدول في المحافل الدولية ـ كما تقول الخيارات الثلاثة المتاحة أمام الدول الصغيرة وفقاً لنظريات العلاقات الدولية – فقد تحولت قطر إلى تجميع أوراق القوة الناعمة بنجاح ملحوظ كما رأينا في القسم السابق، وهو ما ساهم في ترسيخ وجودها وصورتها كشريك يعتمد عليه أميركياً في الخليج. وحتى تزيح السعودية من مرتبة «الشريك الوحيد» خليجياً، تطلعت قطر إلى القيام بأدوار إقليمية تتناسب مع قدراتها المحدودة، وتحقق بعضاً من أحلامها الكبيرة. بمعنى آخر، بعد أن ضمنت قطر ترتيب خطوط دفاعاتها، في ظل رقعتها الجغرافية المحدودة وكتلتها السكانية الضيقة، لاحت في الأفق فرصة تظهير إمكاناتها الإعلامية وما راكمته من قوة ناعمة. تلخص ذلك في انتقال قطر من التموضع الدفاعي النشط، المتقلب سياسياً والمغطى إعلامياً، إلى امتلاك زمام المبادأة الديبلوماسية؛ اعتماداً على قراءة صائبة لتركيبة النظام الإقليمي الذي ساد في العقد الأول من الألفية الجديدة. كانت المنطقة تعرف قبل «الربيع العربي» محورين: المحور الأميركي الذي تنضوي فيه السعودية ومصر والأردن ودول الخليج العربية وإسرائيل، والمحور الإيراني الذي تنضوي فيه سوريا وحركات المقاومة، «حزب الله» و«حماس». ومع فقدان الرؤية والقدرة على الحركة الذي ساد على مستوى الأطراف العربية المنخرطة في المحور الأميركي، فقد ظهرت ثغرات واضحة في المواقع التي شغلتها تلك الأطراف تاريخياً. وإذا تصورنا مشهد المنطقة في العقد الماضي كغابة تعج بالوحوش والضواري، فقد سنحت الفرصة مع احتدام الصراع، وانكشاف الخواء والإعياء الذي اعترى «أفيال الاعتدال» – لأسباب تتعلق بمشروعيات نظمها وتركيبتها الداخلية – أمام الضباع السريعة الحركة لخطف جزء من الفرائس محل الصراع. وعند ترجمة هذه الصورة الافتراضية إلى واقع سياسي وإسقاطها على الحالة القطرية، ستكون النتيجة أن النزاعات المحلية القائمة في المنطقة تحتاج إلى وسيط لحلها عبر تظهير توازنات الصراعات المحلية المتحققة على الأرض، خصوصاً أن الأخيرة مرتبطة بالصراع الأساسي الدائر في المنطقة (الأميركي – الإيراني).

شكراً قطر

كانت «اتفاقية الدوحة» التي وقعت العام 2008 بين الأفرقاء اللبنانيين المحليين، الحالة الأصدق على ذلك. وقتها ظهرت قطر كوسيط مقبول في الصراع، واحتضن فندق «شيراتون – الدوحة» الاجتماعات التي خرجت باتفاق في النهاية. صحيح أن الاتفاق كرّس موازين القوى على الأرض وقتها، وصحيح أن الأطراف الإقليمية والدولية كانت حاضرة في الاتفاق من وراء الكواليس وعبر ممثليها المحليين، إلا أن قطر قطفت «الصورة» وظهرت في حلة جديدة تتخطى مجرد دولة صغيرة، لتصبح «وسيطاً مقبولاً» بين الأطراف المحلية والإقليمية المتصارعة». ولم تكن الوساطات القطرية ممكنة بدون قدرتها الكبيرة نسبياً على نسج خيوط مع الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة. فمع التوجه الغربي الواضح لسياساتها، إلا أن قطر احتفظت بعلاقات جيدة مع إيران والدولة السورية و«حزب الله» في لبنان وحركة «حماس» في غزة. كان الدور القطري وقتذاك مطلوباً أميركياً وغربياً، لأنه ينفتح على دول وأحزاب ذات علاقات متوترة مع الغرب، وبالتالي شكلت المبادرات القطرية نافذة مفتوحة للغرب كي يطل على هذه القوى السياسية بطريقة غير مباشرة.

ولعل الإجابة عن سؤال: كيف استطاعت قطر، بجيشها المحدود العدد للغاية ورقعتها الجغرافية الضيقة بوضوح، أن تكتسب هذه الهوامش والمساحات، دون تلويح بتدخل عسكري في الأزمات لا تقدر عليه؟ تكمن الإجابة في علاقتها بأميركا؛ إذ مع حاجة الأخيرة إلى حلفاء مضمونين في المنطقة، وقطر تحتاج خلقياً ـ كما رأينا في الحلقة السابقة – إلى حماية عسكرية من خارج المنطقة، فهي بالتالي جزء مضمون ولا يتجزأ من المخطط الأميركي الشامل في المنطقة. وفق ذلك المقتضى استثمرت قطر عضويتها في مجلس الأمن أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006، للتنديد بإسرائيل، وقدمت مساعدات مالية سخية لإعادة إعمار لبنان بعد الحرب. ومع الترحيب اللبناني من فريق «الثامن من آذار» بالدور القطري وصولاً إلى رفع شعار «شكراً قطر» في قرى الجنوب اللبناني، أفسحت قطر لنفسها مكاناً مميزاً في ساحة الصراعات في المنطقة. ولم يتوقف الأمر عند دخول قطر على الخط اللبناني، بل امتد ليشمل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، حيث عرضت قطر الوساطة بين حماس وإسرائيل في العام 2008 إلا أنها لم توفق في ذلك. ثم مدت بصرها إلى الجنوب الغربي للجزيرة العربية، حيث حاولت التوسط في الأزمة اليمنية بين نظام علي عبد الله صالح والحوثيين فلم تكلل بالنجاح أيضاً، على الرغم من توقيع «اتفاقية دوحة» أخرى بين طرفي الأزمة اليمنية، إلا أن الطرفين لم يلتزما بها. وتوسطت قطر في ملف دارفور العام 2008، ونجحت في التوصل لاتفاق بين البشير و«جبهة العدل والمساواة» العام 2010، إلا أن الوضع هناك ما زال قابلاً للاشتعال. ومع إخفاق غالبية المبادرات القطرية، باستثناء لبنان 2008، فقد ساهم جمع أفرقاء الساحات المختلفة بالدوحة بالرغم من ذلك في تنصيب قطر «وسيطاً» بين الأطراف المتنازعة. لم ترغب قطر، الواعية بحدود قدراتها، في الانحياز لطرف ضد آخر، على ما توهم البعض، بل في تثبيت نفسها في المكانة الجديدة كوسيط مقبول إقليمياً. واستفادت قطر من عاملين في تحقيق مكانتها الجديدة: أولها أن حلقة صنع القرار فيها ضيقة جداً مقارنة بالسعودية مثلاً، وثانيها تقديمها الحوافز المالية والاستثمارية للالتزام بالاتفاقات التي ترعاها. وبالمقابل فقد أظهر فشل غالبية الوساطات عن عيبين مقابلين: الأول أن الدوحة لا تستطيع عملياً متابعة التخطيط لحل الأزمات ولا التحقق من تنفيذ الاتفاقات، والثاني أنه يجب عليها دوماً التعاون مع قوى خارجية لإنجاح وساطاتها.

مقدمات التحول القطرية

أدخلت قطر تغييراً على سياساتها الإقليمية ابتداء من العام 2009، حيث قلصت كثيراً من معارضتها للسعودية، فلم تعد الأخيرة ذلك الهاجس الذي يسيطر على أذهان صناع القرار في الدوحة. كان السبب في ذلك راجعاً إلى مجموعة من العوامل، أولها أن قطر نجحت في تأمين نفسها ضد الطموحات السعودية، إلى الحد الذي أصبحت فيه شريكاً يعتمد عليه أميركياً في الخليج. وثانيها أن التقدم المطّرد للمحور الذي تقوده إيران في المنطقة، سيؤدي إلى تثبيت أمر واقع إقليمي جديد غير مؤات لقطر ومخاوفها الأزلية من إيران. أما العامل الثالث والهام في الحسابات القطرية فمفاده أن حل الأزمة النووية الإيرانية سلمياً سيتطلب منطقياً تفاهماً أميركياً – إيرانياً، يقنن أوجه الصدام ويعين خطوط الصراع الجديدة بين المحاور، بعد أن يضعف الحاجة إلى تفاهم أميركي – قطري. وبالتالي يتطلب منع التفاهم الأميركي – الإيراني من التحقق أن تتقارب قطر مع السعودية، بما تملكه الأخيرة من نفوذ غير منكور على عملية صنع القرار الأميركي ومجموعات الضغط الأميركية (لوبي النفط، لوبي السلاح، لوبي المصارف). في الوقت نفسه الذي تحسنت فيه علاقات الرياض بالدوحة، على خلفية الاصطفاف في مواجهة إيران، بدأت الدوحة في مد الخيوط مع تركيا، المنافس التاريخي لإيران على النفوذ في المنطقة. كان واضحاً أن قطر بصدد الانتقال إلى ترتيبات أخرى لسياساتها الإقليمية تعتمد حصراً على تحالفات أميركا في المنطقة، وإن كان التجديد فيها يتمثل في إسناد العودة التركية إلى المنطقة وتسهيلها ديبلوماسياً وإعلامياً. ومع أن التناقضات السعودية – التركية قائمة وحاضرة، إلا أنها تراجعت وقتياً – في أتون الصراع الديبلوماسي والإعلامي مع إيران – لتصبح تناقضات ثانوية في مقابل التناقض الرئيس مع إيران.

ظهرت العلاقات المتميزة بين قطر وتركيا مع «الاجتماع الرباعي» في دمشق 2008، الذي ضم إلى جانب الرئيس السوري أمير قطر ورجب طيب أردوغان ونيكولاي ساركوزي. ساعتها فرح أنصارسوريا بالاجتماع، لأنه يكسر العزلة المفروضة عليه بعد انعقاد المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. كان الغرض من اللقاء تسليف الرئيس بشار الأسد موقفاً، وتلزيمه محاصرة تحالفات إيران الإقليمية في المشرق، عبر التلويح بمزايا التحالف الجديد التركي – القطري – الفرنسي – الأميركي. تحالف اجتمعت فيه الإغراءات المالية والغطاء الإقليمي البديل والضمانات الدولية، ولكن هذه المحاولة لم تفلح لأسباب تخرج عن نطاق الدراسة. تلت ذلك محاولة سعودية أخيرة بالغرض ذاته لم تفلح أيضاً، حيث اجتمع في بيروت ملك السعودية والرئيسان السوري واللبناني عام 2010 في تظاهرة سياسية ذات مغزى. ساعتها ولت قطر والسعودية وجهيهما إلى التأثير على مواقف «حماس» الإقليمية بوسائل شتى. لا تملك «حماس» قدرات عسكرية استثنائية تهدد بأي شكل دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولكنها تمتلك ميزتين رئيسيتين مهمتين للأطراف الإقليمية. الأولى أنها الطرف الفلسطيني الذي يملك «سلاحاً» يستطيع به التأثير معنوياً على الجماهير العربية وإبقاء الصراع مشتعلاً على المستوى الرمزي، ما يحرج المعسكر الإقليمي الذي تقوده السعودية، والعاجز عن اجتراح أية تسوية سلمية للقضية الفلسطينية. والميزة الثانية أن ابتعاد «حماس» عن إيران وتحالفاتها الإقليمية يسهل ويسوغ التصنيف الطائفي للمحور الذي تقوده إيران، ما يخصم بالتالي من رصيده الجماهيري على خلفية انبعاث «الصراع السني – الشيعي» وفرضياته. وفي هذا المضمار تضافرت الجهود القطرية – التركية – السعودية لتنتج حالة «حمساوية» جديدة تعكسها ثنائية خالد مشعل – إسماعيل هنية.

قطر و «الربيع العربي»

دعمت قطر الانتفاضات العربية منذ بدايتها، فتخلت عن «أدوار الوساطة» كي تلعب «أدوارا جديدة». ومنذ اندلاع شرارة الثورة التونسية أواخر العام 2010، واكبت «قناة الجزيرة» الحدث التونسي لحظة بلحظة وبرعت في الإضاءة عليه، وصولاً إلى عودة راشد الغنوشي، زعيم «حزب النهضة»، الذي تملك معه قطر علاقات تعود إلى سنوات مضت، وسيطرته على زمام الأمور في تونس. وعند انتقال «الربيع العربي» إلى مصر مع بداية 2011، أصبحت المحطة التلفزيونية القطرية محركاً رئيساً للأحداث وتوجيهها لمصلحة «الإخوان المسلمين». ومثلت زيارة الشيخ القرضاوي، المقيم في قطر منذ سنوات، إلى ميدان التحرير في «جمعة الانتصار» محاولة إعلامية لمحاكاة عودة الإمام الخميني إلى طهران بعد انتصار الثورة. وتجلت ذروة الظهور القطري السياسي في مارس/آذار 2011 عندما ضغطت قطر، باعتبارها الرئيس الدوري لجامعة الدول العربية، لتبني قرار يجيز التدخل العسكري في ليبيا. وتوازى طموح قطر الجديد مع حالة مصر المنهكة اقتصادياً وسياسياً، وموقف السعودية التي تركتها تتقدم الصفوف. أظهرت قطر وعياً ما بحدود قدرتها الذاتية، لذلك تحالفت مع دول أخرى لتمرير مصالحها في ليبيا، لأنه لا يمكن لقطر، بقوات مسلحة قوامها اثنا عشر ألف عسكري، أن تلعب دورا عسكرياً لا في المنطقة ولا خارجها. ولعب انخراط «الناتو» في ليبيا دوراً كبيراً في تظهير الطموحات القطرية، التي استخدمت لأول مرة «قدراتها العسكرية» هناك. ودربت قطر الثوار الليبيين عسكرياً، وأمدّتهم بحوالي ألفي طن من العتاد العسكري، مثلما أرسلت «القوات الخاصة» التابعة لها إلى الأراضي الليبية. ومع الروابط والوشائج القبلية التي تربط قبائل شرق ليبيا مع قبيلة تميم التي تنتمي إليها العائلة القطرية الحاكمة، كان الأمر سهلاً على الدوحة لتغطية مصالحها في ليبيا بغطاء تقليدي.

شارك «الطيران القطري» رمزياً في عمليات «الناتو» ضد القذافي بست طائرات، لم تقدم ولم تؤخر في سير العمليات، ولكنها نقلت وضعية قطر الرمزية درجات. ولا يفوت هنا ملاحظة أن ليبيا الواقعة على المتوسط هي أحد أهم موردي الغاز الطبيعي والنفط إلى أوروبا، التي تصدر قطر إليها الغاز المسال بحراً عبر السفن. وبالتالي يعد تغيير النظام الليبي مدخلاً ممتازاً لتولي قطر حصته الأوروبية من الغاز في فترة الحرب الأهلية وما بعدها، وفرصة لقطر كي تشارك بفعالية في امتلاك أنصبة بالشركات النفطية والغازية الليبية (المنافسة) سوياً مع فرنسا وإيطاليا، مستثمرة في ذلك عوائد استثمارها السياسي والعسكري والمالي في إسقاط القذافي. ترددت قطر عند بداية الحراك السوري، ولكن بحلول صيف 2011 كانت الدوحة في مقدمة صفوف مناوئي النظام السوري. دعت قطر إلى تدخل عسكري في سوريا، وحاولت تمرير قرار في مجلس الامن ضد سوريا مستظلة الجامعة العربية، يطالب الاسد بنقل سلطاته الى نائبه، ولكن روسيا والصين استخدمتا حق النقض لمنعه. ومثلما تفعل في مصر وتونس، تتحالف قطر مع «الإخوان المسلمين» في سوريا، وهم مكون أساس لـ«المجلس الوطني السوري»، الذي ترعاه الدوحة وتملك علاقات تعود إلى سنوات خلت مع بعض أقطابه. سيضعف سقوط بشار الأسد إيران، وهي مصلحة مشتركة للتفاهم الثلاثي السعودي – التركي – القطري المتشكل من العام 2009. أما المصلحة القطرية الخاصة فربما تتمثل في قطاع الطاقة السوري، إذ بالرغم من الاستثمارات القطرية الكبيرة في هذا القطاع خلال السنوات الماضية، إلا أن الدوحة ربما تنوي التوسع أكثر بالاستثمار فيه بعد تغيير النظام الحالي، من خلال تمرير أنبوب ينقل الغاز الطبيعي القطري عبر السعودية ومنها إلى سوريا وصولاً إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا بالنهاية. ويعني ذلك أن مشروع نقل الغاز الإيراني عبر تركيا إلى أوروبا، وهو إحدى أوراق إيران الهامة لمنع ضربة عسكرية ضدها والتأثير على الموقف الأوروبي لمصلحتها، قد يتعرض إلى محنة قاسية، إذا وصل الغاز القطري إلى تركيا عبر الأراضي السورية. موقف قطر من سوريا ومصالحها فيها يفعل التناقضات الموجودة بين قطر وايران ـ كما أتينا عليه سابقاً- وهي سياسة خطرة فعلاً، لأن المثل العربي يقول: ليس في كل مرة تسلم الجرة.

تراجعت أميركا ظاهريا في «الربيع العربي» وتركت المجال واسعاً أمام قطر ـ وتركيا – ليرسما مسار الانتفاضات الشعبية العربية بما لا يتصادم مع مصالح واشنطن في المنطقة، ودون تدخل مباشر منها. وبدوره فتح «الربيع العربي» الآفاق أمام قطر لتوسيع دورها عبر التحالف مع تيار الإسلام السياسي في الدول التي شهدت انتفاضات شعبية، ولكنه أظهر بالوقت نفسه قدرات قطر المحدودة. وصل الإسلاميون الذين تدعمهم قطر إلى السلطة في تونس ومصر، وهو أمر إيجابي لها ولقدرتها على لعب دور «العراب» بين حركات الإسلام السياسي والغرب. انتقلت قطر من استراتيجية البقاء إلى استراتيجية التوسع تحت عباءة «الربيع العربي»، وتجاهلت حقيقة وضعتها دوماً نصب عينيها وهي أن الانخراط المباشر في الصراعات الإقليمية لا يتناسب مع جغرافيتها الضيقة وكتلتها السكانية المحدودة. سحب «الربيع العربي» من الدوحة ـ من حيث لم تحتسب – أهليتها للوساطة كطرف محايد في النزاعات الإقليمية، بعد اصطفافها الجديد. ويعني اصطفاف قطر في محور إقليمي ـ أياً كان – أن قوتها الناعمة التي راكمتها على مدار عقد كامل واستثمرت فيها مبالغ طائلة ستتعرض إلى تحد كبير، حيث أصبح معارضو الإسلاميين في تونس وليبيا ومصر وسوريا بالنتيجة معارضين لقطر وأدوارها الجديدة. وفيما ظاهرت قطر المعارضة في مصر وليبيا وسوريا وتونس، إلا أنها لعبت دوراً إعلامياً واضحاً في قمع التغيير في البحرين. كما أن موقع الدوحة الجديد سيبرز بوضوح ذلك التناقض المتمثل في دعمها للديموقراطية خارجها، في ظل عدم وجود مجالس منتخبة فيها من أي نوع. وإذ يضم «مجلس الشورى القطري» خمسة وأربعين عضواً كلهم بالتعيين، يحاول الأمير جعل ثلاثين منهم منتخبين بحلول العام المقبل، إلا أن صلاحيات مجلس كهذا تبقى مع كل ذلك شكلية إلى حد كبير. ولأن قطر تحكم أوتوقراطياً على الرغم من الحديث المتكرر عن «إصلاحات سياسية»، يحيد ذلك الأمر العامل المحلي في صنع القرار القطري، ويجعلها رهينة للتوازنات الإقليمية ذاتها، التي أفنت جهدها ومالها في العقد ونصف الماضيين لتجنبها.

يبدو أن الدوحة، في غمرة نجاحات «الربيع العربي»، تندفع وراء أحلام كبيرة فتنسى حتميات الجغرافيا وما تقدره للدول من قدرات لا يمكن شراؤها أو القفز عليها!

مصطفى اللباد
رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية
القاهرة

(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock