آلام بكلِّ الأنواع والأحجام..
تجارة السلاح والخطف والنهب تترصَّد السوريين..
والنزاع المسلح ينشر أمراضه الاقتصادية والاجتماعية والنفسية
بعد مرور سنتين وشهرين على الأزمة السورية، نستخلص، إضافة إلى التصعيد العسكري والسياسي المرتبط بمصالح العديد من الأطراف والدول، أنَّ ملامح التوسّع، في المصالح المرتبطة بالعنف المسلح والفوضى والتخبط الداخلي الذي تعيشه البلاد، بدأت بالتغلغل؛ كتجارة السلاح، والخطف، والنهب والسرقة، والابتزاز من قبل المستفيدين (سواء كانوا أطرافاً في النزاع، أم عميلين لهذه الأطراف، أو حتى انتهازيين لا علاقة لهم بأحد).
كلُّ هذا شكَّل حافزاً خطراً لاستمرار القتال، وأسّس أنشطة اقتصادية غير شرعية وغير أخلاقية، تقنص فرص التنمية المستقبلية، لتُخرج البلد من الأزمة، مع كثير من الخسائر النفسية والمادية؛ ما يعني ضرورة وجود دور فاعل للمجتمع المدني في مواجهة هذه الظاهرة الخطرة، وتوفير مقومات مناسبة لوقف العنف والابتزاز والاستغلال القائم في البلاد.
مستفيدون من آلام المجتمع..
يتّسم الاقتصاد، في أوقات النزاع المسلح، بالاحتكار، والمضاربة، وغيرذلك مما يقيّد ويدمر القطاع المنظم، ويوسّع غير المنظم والسوق السوداء. هذا ما أكده الخبير الاقتصادي عابد فضلية، حيث بيَّن أنه “في كل نزاع تخرج شرائح واسعة أو ضيقة من تجار الأزمات وتجار الحروب، المستفيدين من آلام المجتمع، خاصة عبر المضاربة بالقطع الأجنبي واحتكار السلع الغذائية. وكأنها فرصة، يحاول بعضهم استغلالها لتحقيق أرباح غير مشروعة. وعلى الرغم مما نشهده خلال هذه الأزمة، لايزال هؤلاء المستغلون في شرائح ضيقة، لأنَّ الشعب السوري يلتزم بأخلاقيات لاتزال موجودة، على الرغم من كلِّ شيء. ويجب علينا أن نميّز بين بدايات الأزمة وهذا الوقت؛ حيث كان القضاء في بدايات الأزمة متماسكاً، ودائرة تجار الأزمات أضيق؛ ما يوضح مدى توسع هذه الشريحة المستغلة”، مشيراً إلى أنه “من الصعب أن يستمرّ الابتزاز والمتاجرة، إلا بوجود محيط رخو ومتهالك، إضافة إلى تواطؤ الجهات الرقابية التي لها علاقة في لجم هؤلاء المستغلين.
السبب والنتيجة..
تنقسم الأدبيات، التي تركز على العوامل الاقتصادية المؤثرة في النزاعات الداخلية، بين مرجّح للمظلومية وآخر للجشع، كمسببات رئيسة للنزاع الداخلي. هذا ما أكده فضلية، موضحاً أنَّ “الخطورة تكمن في ازدياد أعداد النزاعات المسلحة الداخلية، التي غدت مموّلة ذاتياً نتيجة اعتمادها على تحويلات المغتربين والموارد الطبيعية، والسيطرة على المساعدات الأجنبية. لذا سيؤدي التراخي من قبل الرقابة والجهات التموينية إلى اتساع رقعة الشرائح ضعيفة النفوس، خاصة أنَّ بعضاً من العاملين في تلك الجهات هم جزء من المجتمع وجزء من المستغلين، وبالتالي هم متعاونون معهم”؛ مبيّناً أنَّ “الاقتصاد هو الوجه الآخر للأزمة، ولا يوجد أزمة سياسية إلا تترافق مع مشكلات اقتصادية واجتماعية”، مشيراً إلى تخوفه من الانفلات الرقابي، الذي بعد حين قد يجعل من الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السبب والنتيجة.
دور الاقتصاد الآن..
إذاً الاقتصاد لم يكن الانعكاس الأساسي لازدياد الفساد والاستغلال في الأزمة السورية، إذ لا يمكن أن نغفل عن التحول نحو العنف المسلح، إلا أنَّ المشكلات الاقتصادية أصبحت مساهمة في استمرار النزاع.. لقد تمَّ خلق اقتصادات للعنف في سورية، تجلَّت في العديد من الظواهر. فالحصول على السلاح يحتاج إلى تمويل، يأتي من دول أو منظمات أو مغتربين أو مدخرات، بما فيها بيع الموجودات كالبيت والأرض. ومع تعثر السبل، يصبح النهب والسرقة أحد المصادر الرئيسة. وهذا يشمل كل فرد مستغل. كما أصبحت تجارة السلاح مصدراً لثروات هائلة، في وقت لا توجد فيه فرص اقتصادية تُذكر للعمل. من جهة أخرى، أدّى ازدياد أعداد العاطلين عن العمل إلى البحث عن دخل، بما في ذلك الالتحاق بأحد أطراف القتال في بعض الأحيان. حول هذه النقطة، يقول الخبير الاقتصادي: “بالتأكيد هذا لا يشمل كل المشاركين، وليس بالضرورة أن يكون المردود المادي هو السبب الأهم، إلا أنه حافز للانضمام إلى النزاع. هذا إلى جانب خطف واستغلال النساء والرجال والأطفال (في عملية اتجار بالبشر داخل سورية وخارجها)، والاستحواذ على المنشآت والمصانع، واحتكار توزيع الخدمات والمواد، وسرقة الآثار؛ حيث تعدّ هذه الأمور أحد أوجه تمويل واستدامة النزاع. هذا إلى جانب إنشاء الأبنية المخالفة، وشراء أملاك الدولة بأسعار بخسة، وإصدار قوانين توزيع وتنظيم الأراضي، التي خلقت طبقة تعتاش على تأجج العنف، وأصبح للكثيرين المصلحة في استمرار النزاع، لتحقيق مكاسب في فرصة نادرة للانتهازيين”.
مافيات مبرمجة..
المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تأثرت بشكل كبير بالأزمة السورية. وما تتعرض له سورية اليوم تشارك فيه كل دول الغرب ومشايخ الخليج وتركيا. وهنا يقول الدكتور حيان سلمان (معاون وزير الاقتصاد): “من أرادوا تدمير البنية الاقتصادية هم مافيات اقتصادية موجهة توجيهاً مبرمجاً من الدول المتآمرة. ويتجلى هذا في سرقة المواسم وحرقها، إضافة إلى التلاعب بالليرة السورية وسعر الصرف. والجميع على دراية بأنَّ هناك مصارف متخصصة في السعودية، حسب ما تناولته مصادر عالمية، بدأت باللعب بالسعر التوازني لليرة السورية، إضافة إلى تجار الأزمات الذين استغلوا هذه المؤامرة التي تهدف إلى الاحتكار والمضاربات. وهؤلاء هم من شجعوا على حمل السلاح، حيث يستمرّ النزاع المسلح، وبالتالي يستمرون في السيطرة على الموارد. والمشكلة الأخطر هي في سيطرة بعض المجموعات المسلحة على الموارد التي تحتاج إلى فترات طويلة من الاستكشاف والإنتاج والتوزيع والتصدير، كالنفط والألماس والغاز وغيرها، والتي تصعب السيطرة عليهابالنسبة إلى المسلحين، بينما تسهل السيطرة على الثروات المنقولة، مثل المعدات والمدخرات والمحاصيل. وهنا يؤكد سلمان: “كما يتوجب على سورية أن تتصدّى للمؤامرة السياسية والعسكرية، يجب التصدي للمؤامرة الاقتصادية، إذ لا يمكن ترك الأمور على عاتق الدولة، وأن يتحول المواطن إلى “خفير” من أجل مواجهة الغش والتدليس الاقتصادي. وذلك يتم من خلال تخصيص خط ساخن في كل محافظة، للإشارة إلى نقاط الفساد. وهذا الأمر يحتاج إلى إجراءات وطنية وليست حكومية وتفاعل المنظمات المهنية والهيئات”.
ويضيف سلمان: “عند الحديث عن إجراءات الحكومة حول التكامل الاجتماعي، وأنَّ موازنة 2013 كانت 1385 ملياراً خصّص منها 500 مليار ليرة للدعم الإنتاجي والاستهلاكي، نجد أنَّ منظومة الإنتاج في العالم لا تخصّص هذا المبلغ، إلا أنَّ سورية حافظت على 30 % من الإنتاج. ورغم مرور أكثر من عامين على الأزمة، لاتزال الإصلاحات الاقتصادية مستمرة وكذلك الخدمات الطبية والتعليمية”.
الفساد يتسع عند الضيق..
عندما يكون أيّ بلد في أزمة، لابدَّ من التأقلم مع الوضع الجديد. ويقول الخبير القانوني حسام الصفدي: “إنَّ هناك الكثير من ضعاف النفوس استغلوا الأزمة التي تمرّ بها البلاد، من تجار ولصوص، لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ الاستغلال يشمل الشريحة الأكبر؛ حيث إنَّ هناك مناطق ضعيفة في الأساس وبيئتها قادرة على أن تكون حاضنة للفساد والانحلال الأخلاقي، وظهر ذلك فيها بشكل واضح؛ حيث تتلاشى الحدود بين المسموح وغير المسموح وحتى الجرمي. ويستخدم النهب والابتزاز والعنف المتعمد ضدّ الأشخاص والأطفال وكلّ فرد، إضافة إلى أنَّ السيطرة على الممتلكات والمنشآت والتجارة واستغلال العمال والاقتصادات في النزاع، تعدّ لامركزية ومخصخصة إلى حد كبير، حيث يقوم التجار والأشخاص العاديون باستغلال التجارة والموارد المتاحة، ويزدهر التهريب والتجارة عبر الحدود بطرق مختلفة، وخاصة تهريب الأسلحة والمواد الأساسية”، مبيّناً أنه “على الرغم من الإجماع على أهمية العوامل الاقتصادية في النزاعات، إلا أنَّ الخلاف يتركّز على مدى مساهمتها بالمقارنة مع العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية. ويجادل منتقدو فكرة “الجشع كمحرك رئيس للنزاعات” في أنَّ الدراسات في معظمها تكون مركزة على “المتمردين” وتحابي الدول. والجوهر أنَّ النزاع الداخلي ينشأ بسبب الفساد المنهجي، وغياب عدالة التوزيع للموارد، والإقصاء الكبير لشرائح من المجتمع. لذا نرى أيَّ فرد لديه القدرة على استغلال أيّ شيء حُرم منه”.
السبب والنتيجة..
يتابع الصفدي: لا يجدر الخلط بين السبب والنتيجة. فالحرمان من الحقوق الرئيسة في التعليم والصحة والعمل وحرية التعبير والمشاركة في صناعة القرار، يسبب الشعور بالظلم على نطاق واسع في المجتمع. وهنا تظهر محورية دور المؤسسات بمفهومها الواسع، كقواعد حاكمة للعلاقات الاجتماعية ضمن الدولة. فإذا كانت المؤسسات غير مرنة وغير قادرة على تلمّس مشاعر ومصالح وحقوق شرائح واسعة من المجتمع، سيكون الصدام حتمياً وعنيفاً. وهنا تكمن أهمية التغير المستمر في بنية المؤسسات وتمثيلها للمجتمع، لتواكب وتستجيب لتطور المجتمع. وفي هذه الحالة، تتمّ ترجمة المظلوميات أو التطلعات إلى تغيرات جوهرية في آليات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية. وهنا لا يكفي مفهوم المرونة والتمثيل والمشاركة؛ فالمؤسسات التي لا تقوم على احترام شخصية الإنسان وكرامته ستصطدم مع المجتمع ولو بعد حين.
القاتل هو المثل الأعلى ..
“الأخطر في هذه الحالة من انتشار العنف المسلح هو خسارة احترام شخصية الإنسان وكرامته؛ حيث أصبح القتل مرحّباً به، والقاتل هو المثل الأعلى. وهي بيئة مثالية للابتزاز”. هذا ما أكده الصفدي، مبيّناً أنَّ “المؤسسات نوعان؛ المؤسسات الرسمية التي ينص عليها القانون والتشريعات مثل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والنوع المؤسسات غير الرسمية التي تحكم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد دون أن ينصّ عليها، مثل المؤسسة الدينية، والمؤسسة الأمنية. وإن استمرار العنف المسلح، يقود إلى بناء مؤسسات ذات مصلحة في الحرمان من الحريات العامة والمشاركة واحترام الإنسان، لتفرض الأطراف المسلحة قواعدها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأفراد”.
تعقيد العوامل الداخلية ..
كشفت هذه الأزمة عن تعقيد العوامل الداخلة فيها، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، على المستويين الداخلي والخارجي؛ ما أدّى إلى تدهور الأوضاع للوصول إلى نزاع مسلح حاد. وفي هذا الخصوص، يقول توفيق داؤود (المحلل الاجتماعي الاقتصادي): “إنَّ النزاع المسلح قاد حتى الآن إلى خسائر استثنائية في الأرواح والمصابين جسدياً ونفسياً، إضافة إلى إضعاف القيم الاجتماعية والإمكانات الاقتصادية. وهذا طبيعي؛ حيث إنه مع تدني القيمة المالية، وعدم كفاية دخل الفرد، يكثر ضعاف النفوس. لكنَّ ذلك لا يشمل الشريحة الأكبر”، موضحاً أنَّ “هناك مناطق استغلت الفرصة في عدم توافر جهات أمنية ومخافر، حيث بات شغلها الشاغل ضبط المسلحين وحماية المواطنين. وهذا التراخي جعل الأمور والمشكلات تزداد، لذا لابدَّ من إعادة مرافق الدولة، للاهتمام بمراقبة الأسواق، والوقوف في وجه تجار الحرب والجشعين. والإدارات الحكومية ملزمة بدورها، خاصة أنها على علاقة مباشرة مع المواطن”.
والمطلوب في هذه المرحلة، حسب داؤود، الضغط لتحويل الحوافز من اقتصادات النزاع إلى اقتصادات الحلّ، التي يُفترض بها التركيز على نبذ وملاحقة ورفض الحوافز الاقتصادية للسلوك العنفي والإجرامي، كالقتل والسلب والنهب والغنائم. ويتصدَّر هذه الحوافز المرفوضة السياسات العامة الموجهة إلى تمويل التسليح، ومنح تسهيلات للمخالفات والتجاوزات. كما تتضمن الحوافز المرفوضة أرباح قطاعات تهريب السلاح واحتكار المواد الأساسية؛ الأمر الذي يقوض أسس التنمية المستقبلية ورأس المال الاجتماعي؛ ما يتطلّب تطوير الأدوات لمواجهته.. مؤكداً أنَّ الضغط باتجاه الشفافية والمساءلة للجميع ركيزة رئيسة تبدأ الآن وليس بعد التسويات السياسية.
أمراض معادية للمجتمع..
الأمراض النفسية التي تخلفها الأزمة كثيرة. فعلى الرغم من الأحداث المتسارعة وانشغال الناس بالبحث عن سبل الحياة والأمان خلال الأزمة، إلا أن أمراضهم، بعد انتهائها، ستخرج إلى السطح، لتعكس كمية الضغط الذي حمّلتهم إياه الأحداث العنيفة التي عاشتها البلاد. الطبيب النفسي هيثم علي، أكد أنَّ هناك أمراضاً كثيرة حملتها الأزمة إلى مجتمعنا، منها اضطرابات الشدة ما بعد الصدمة، التي تحدث بعد تعرض الشخص لكارثة، كمشاهدة قتل، أو فقدان قريب، أو انهدام منزل.. هذا إلى جانب الاكتئابات الارتكاسية الناتجة عن الفقد، والاضطرابات الاكتئابية الناتجة عن النزوح، والضغوط النفسية الناتجة عن الإحساس بالحاجة؛ حيث ساء الوضع الاقتصادي لكثير من الناس بعد أن كانوا مستقرين مادياً.
ويشير علي إلى أنَّ “كلّ الأشخاص، الذين لديهم أمراض نفسية أو جسدية نفسية، من الممكن أن تزداد حدة الأمراض لديهم بشكل واضح. وعملياً كل الاضطرابات النفسية، المتعلقة بالمزاج والتكيف والقلق والخوف، ازدادت عند كل شخص على حسب نفسيته والوضع الذي يعيشه”.
هذا إلى جانب الاضطرابات “السيكوباتية” المضادة للمجتمع، والتي تدفع إلى الانحرافات كالسرقات والاعتداء وغير ذلك. وكلّ ذلك نتيجة العنف الذي يعيشه المجتمع. ويلفت الطبيب النفسي إلى أنه “على الرغم من كثرة الأمراض النفسية، إلا أنَّ اللجوء إلى الأطباء النفسيين لمعالجة تلك الحالات قليل جداً؛ لأنَّ لدى الناس أولويات اليوم تسبق ذلك”، مؤكداً أنه “بعد انتهاء الأزمة، سنرى تأثيرات نفسية على الجيل بكامله؛ حيث سيظهر الأذى بشكل واضح، لأنَّ المرضى اليوم قد تشغلهم الحياة والبحث عن الأمان عن أمراضهم النفسية، إلا أنهم سيعانون منها بقوة بعد انتهاء الأزمة”، مشيراً إلى أنه “يجب التحضير لمعالجة نتائج الأزمة السلبية ما أن تحطّ رحالها، سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم نفسية. وبشكل خاص من الممكن أن تتمّ التحضيرات لتجاوز الأذى النفسي، من خلال تحضير فرق من الاختصاصيين لتقديم الدعم الاجتماعي والنفسي لمحتاجيه، ومساعدتهم في مراكز تخصّص لهذا الغرض”.
سيريان تلغراف | ريم فرج – بلدنا