يعكس الاقتراح الأميركي الروسي عقد مؤتمر دولي حول سوريا حجم القوى والمصالح المتنازعة في هذا البلد. لكن أحداً من الأطراف الدوليين والإقليميين لن يكتفي بالبحث عن تسوية على مستقبل سوريا وحدها. إن حجم الملفات التي وجدت لنفسها تعبيراً في المسألة السورية كبير ومتشعب. سيكون على المؤتمر الدولي الموعود أن يعالج مسألتي النظام الدولي والإقليمي ويعيد ترتيب النفوذ وموازين القوى. لذلك يشكل التفاهم الأميركي الروسي نقطة انطلاق وليس محطة وصول في المدى المنظور. فلطالما سمعنا هذا الاقتراح وقد تردد كثيراً منذ عقود في ما خص المسألة الفلسطينية. وفي كل مرَّة تعثر انعقاد هذا المؤتمر بسبب حجم التناقضات وتداخل الملفات والقضايا والمصالح.
لا شك ان توجهاً من هذا النوع يلجم تصاعد الأزمة ويضع سقوفاً لطموحات الكثير من الفرقاء ويحاول حصر بعض النزاعات واحتواءها. فهو على الأقل يؤكد استبعاد اندلاع حروب كبيرة أو اتساع مسرح العمليات الحربية وامتدادها إلى أقاليم أخرى. لكن هذا الإطار الدولي لا يحسم في السيطرة على النزاعات الداخلية ولا يضع ضوابط لعنف اندلع أساساً بسبب اختلالات عميقة شهدتها المنطقة وأزمات سياسية واجتماعية هي خارج تصورات اتفاقات الدول وسلمها وتعايشها وتقاسمها للنفوذ.
كشفت الثورات العربية الغطاء عن قضايا مجتمعات كانت عاجزة أن تعبّر عن نفسها بصورة واضحة، وعن مشكلات كانت مكبوتة أو ملغاة بفعل المنظومة السياسية القائمة. ما نشهده الآن من صعود لموجة الإسلام السياسي وللعنف السياسي وللفكر الظلامي ليس حدثاً عابراً وعارضاً ولا هو ظاهرة مستوردة أو وافدة على المنطقة من خارجها ـ هناك أزمة اجتماع سياسي مزيج من عناصر متعددة، منها فشل التنمية وغياب الديموقراطية، ومنها الانفجار الديمغرافي واختلال التوزيع في الثروات، ومنها الغبن اللاحق بفئات وشرائح اجتماعية وعرقية وطائفية. كل ذلك تقاطع مع إحباط شديد في مسألة الكرامة الوطنية وتغذى من السياسات التي اتبعتها
وتصدرها الأنظمة النفطية بقطبيها الإيراني والسعودي. إذا كانت المسألة على هذا النحو حري بنا البحث عن حلول لا تقتصر على انتظار تسويات دولية بل يجب أولاً أن نتجه إلى إخراج بلادنا ومجتمعاتنا من ثقافة الاستعمار والوصاية التي تأكدت اليوم بتدويل مشكلاتنا وبتوكيل الخارج الإقليمي والدولي في حلّها برغم كل ادّعاء عن خوض معارك السيادة والاستقلال والوطنية. وليس بعيداً من هذا القول اننا كنا أسرى الحرب الباردة وما زلنا أسرى الصراعات الدولية، وأن الجديد الذي يستحق الذكر هو وجود الشعوب بعجرها وبجرها في الميدان وهي تحاول بكل ما لديها من عيوب أن تكون صانعة للقرار السياسي.
وبرغم المشهد المؤلم الذي تبدو فيه فلسطين خارج الاهتمام العربي، فإن شعب فلسطين يواجه قطعان الاستيطان وآلة القهر الإسرائيلية بما لديه من قوى وقدرات، غير مرتهن لوهم ان قضيته في يد «العرب» ولا حتى «الإسلاميين». تفرّقت كلمة العرب منذ زمن بعيد لكنها كلمة أنظمة وقيادات اختصرت شعوبها. أما الآن فمن قلب هذه الفوضى نرى الشعوب تواجه مشكلاتها وثقل هذه المشكلات الموروثة، وتتصدى لبناء قواها الذاتية حول موضوعات أكثر واقعية وأقل تعلقاً بالأديولوجيات الكلّية برغم حضور الإسلام السياسي الآيل إلى الخواء في تصديه لهذه القضايا والمشكلات.
وبالفعل إن سلام الشعوب واستقرارها ليس مجرد انعكاس تلقائي لتفاهمات الدول الكبرى بل هو رهن في الأساس بالتقدم الاجتماعي وبإزالة الاختلالات العميقة بينها وبين مستوياته العالمية، وفي إيجاد صيغ ملائمة لإدارة تنوع المجتمعات في هذه المرحلة من توتر الهويات الفئوية إما بدواعي أشكال التمييز المتعددة أو بدواعي الثقافة السياسية المتخلّفة لفشل مشروع الحداثة العربي. مؤتمر دولي محطة جيدة للحد من اتساع الحروب، لكن الأهم «المؤتمرات الوطنية» التي تجد حلولاً لمجتمعات مفككة.
سيريان تلغراف