Site icon سيريان تلغراف

الأسد .. بين مفردات المحبة والنار ووقائع الميدان .. بقلم نمير سعد

عندما تتحدث القلوب عن الوطن تتدفق بدل الدماء انهارٌ من العاطفة الوطنية وبحارٌ من الحب ، وعندما تتوجه ذات القلوب بالحديث إلى قلوب أخرى عاشقة لذات الوطن تتوسع شرايينها وتسكب ما في جوفها من ينابيع الهوى عطراً من ماركة الإنتماء ، وعندما يكون معشوق القلوب جريحاً مكلوماً مفجوعاً نازفاً .. تفتح صماماتها لتسقط دفقاتٍ من الدمع حزناً عليه وأسفاً لحاله وإحساساً بفجيعةٍ اصابتها إذ اصابته ، لكن القلوب ذاتها لا تلبث أن تستمد من حبها لتربة الوطن قوتها ومن عشقه ألقها لترفد الوطن المعشوق بما يحتاجه من البلسم ولتعطه قبلةً يزكيها ترياق القلوب …. . هكذا تقريباً بدأت أول أمس مقالةً ضاعت وتاهت في غياهب الحواسيب وشبكات الانترنت قبل حفظها  ، واليوم أصمم على إعادة صياغة بعض ما كان فيها وأضيف إليه بعض ما يتسكع في شوارع الدماغ عن ذات الموضوع وعن بعض ما يخصه ويتعلق به . منطلقاً من إيماني بأن بعض المضامين لا وقت يؤطرها ولازمن يمحو بريقها وألقها ، هكذا اتحدث أنا إن تحدثت عن سوريا ، وهكذا قرأت ولي كل الفخر حديث الرئيس الأسد الأخير عن سوريا وأهلها .. كما عن أعدائها … .

بعض المواضيع والأحداث و الأقوال تتربع بعد حدوثها على رفوف أرشيف الأدمغة ويكسوها الغبار وتهترئ صفحات مجلداتها وتتلون بالصفار ولا تمتد إليها أيادي العقول مجدداً نظراً لتفاهتها وعدم أهميتها أو تأثيرها في مجرى الأحداث الخاصة أو العامة لبلد ما أو شعبٍ بعينه أو مجموعة بشرية تعيش حقبة محددة أو مجموعاتٍ قد تهتم لاحقاً بذات الحدث أو الفعل أو القول ، خير أمثلة على هكذا شرح أو توصيف هي الأفعال أو الأقوال التي ينهشها تقادم الزمن ويفقدها مضمونها ويلغيها كأقوال وتصريحات كل افرقاء العدوان على سوريا وكل ما سكبوه من قيح أفواههم النتنة من الإعلانات المتتالية عن قرب رحيل الأسد بشكل خاص ، وعن قرب تحقيق إسقاط الدولة السورية شعبان وجيشاً وقيادة ،  وعن توصيف الإرهاب القاعدي في سوريا بالثورة وإعطاء ذباحي جبهة النصرة صفة المجاهدين في سبيل الحرية والديمقراطية ، هذا الفريق الذي تزعمه اوباما و أولاند وكاميرون ونتنياهو فيما كان البقية أبواقاً في يد أولئك كالبوق العثماني والبوق الآل ثاني والبوق الآل سعودي والبوق الجنبلاطي والبوق المتولدن ذو الملمس الحريري والبوق الجعجاع ،  والبوق الملتحي القرضاوي والناعق عزمي بشارة والقلم الأصفر عبد الباري عطوان  وأبواقٌ أخرى لا عدد لها ولا حصر بات يعرفها القاصي والداني ولا حاجة لتعدادها . وبعض الأحداث والمواضيع والأقوال تكون كاللآلئ تزداد جوهرةً ولمعاناً وقيمةً ومصيريةً وتأثيراً مع الوقت وتحتفظ بها الذاكرة في خزائنها الحية ويفرد لها التاريخ أبهى صفحاته وأجملها وأكثرها أهمية ، لا هي تعترف بالتقادم ولا هو قادر على النيل من فاعليتها وأهميتها وحيويتها  كأقوال عظماء القادة السياسيين و العسكريين و أولئك أيضاً لن نخوض في تعدادهم لأن كل من قرأ التاريخ يعرف بعضهم  و كل من يعيش الواقع يعرف بعضهم الآخر ، لكن ما يهمنا أن نؤكد هنا أن الرئيس الأسد فرض نفسه واحدٌ من أولئك .. شاء من شاء و أبى من أبى … . من هذا المنطلق كان لا بد لي من الخوض وإن متأخراً ولكن بطريقتي أو لنقل ” بتصرف ”  في بعض الجوانب ذات الدلالات البالغة الأهمية من حديث الرئيس الأسد الأخير .. الحديث الذي كان ولا زال وسيبقى له بالغ الأثر في مجريات أحداث القادم من الأيام لأنتهي بما يفرضه المنطق من تصور مبني على نتائج معارك الميدان … .

 نادراً ما فاتني أن أتابع مقابلات الرئيس الأسد ولقاءاته الصحفية ، وكنت في كل مرة اكتشف فيه ميزةً جديدة تضاف إلى مجموعة المزايا التي قلما اجتمعت في إنسان  واحد سيما إن كان رئيساً لوطن وقائداً أعلى لقواته المسلحة و “سيما إضافية ” إن كان هذا الوطن هو سوريا وليس قطر مثلاً ، فبالإضافة لخلقه الرفيع وثقافته العالية وحضوره المميز وتواضعه وتصدر أقواله وكلماته وخطبه وتصريحاته لكبريات الصحف المحلية والإقليمية والعالمية وظهوره في كل مشاركاته في اجتماعات الأعراب ” متميزاً ، وجميعنا يذكر أنه كان فيها الوحيد الذي ينصت له الآخرون وتنشغل بكلمته معظم المحطات الفضائية  لأنه الوحيد الذي كان يختلف عن الكل والذي كان  يأتي بجديد في طريقة كلامه وفحواه  لم تعتد آذانهم على سماعه فبدى مراتٍ عديدة كالمدرس الذي يلقي محاضره أو يعطي درساً لتلامذته الجهلة ،، فينتهي الدرس بخلاصة يجتمعون حولها وهي أن هذا الرئيس الشاب  يحرجنا وسوف يتسبب لنا بالعديد من المشاكل مستقبلاً ،،،،ولا بد من فعل شيء إزاء ذلك ،   كان لديه أمل آنذاك  في إصلاح ذات بينها ” جامعة الأعراب آنذاك ”  وتحقيق ما كان يسمى بالتضامن العربي  وقد فعل كل ما في وسعه كما الراحل والده للوصول إلى تلك الغاية إنطلاقاً من إيمان الأسد الأب كما الأسد الإبن بفكرة الهوية القومية العربية … لكن الواقع أثبت أن الأمر ينطبق عليه المثل القائل ” فالج … لا تعالج ” ، أو أن حال الأمة بات كمن أصابه العمى أو اقتلعت عيناه وأصاب الشلل دماغه وجسده ، فلا طبيب العيون ولا ” كونسيرتو ” من أشهر أطباء الكون لهم القدرة على شفائه وإعادة الحياة أو الحيوية إلى عقله وجسده .. لأنه ببساطة حالة  لا أمل في عودتها إلى الحياة … .

تدفقت ينابيع المحبة من قلب الأسد لتتفرع جداول تسقي الأطراف التي تستحق المحبة ،، وبعض من لا زال هناك أمل في أن المحبة قد تكون لا تزال لغةً  مفهومةً عنده ، مسح ببعض مفرداته دموع الأرامل والثكالى واليتامى مكبراً  تفانيهم  مجلاً مواقفهم ومنحنياً أمام تضحياتهم ، ودخلت ينابيع محبته إلى المساجد فخاطب مؤمنيها بكلامٍ كان شراكةً بين القلب والعقل موضحاً أن الإيمان كان وسيبقى بعيداً عن صبغة الإرهاب التكفيري أو التطرف الديني أو الإقصاء الطائفي أو السلوك العنفي الدموي لأتباع تلك الزمر الشاذة عن الدين والمجتمع والبعيدة تماماً عن كنه الإيمان وجوهره ، مشدداً على أن مجتمعنا في أمس الحاجة للدين والإيمان طالما أن الدين هو أخلاق ، ومطلقاً تساؤلاً  مدوياً في ساحات الضمير والوجدان حول إستحالة جمع مفردتي الله أكبر بعمليات نحر الرقاب وجز الأعناق والإغتصاب والتخريب التي ترافقها ، مؤكداً أن من إنحرف عن الدين فقد إنحرف عن الوطن . كذلك لم يفت الأسد أن يسكب بعضاً من ماء المحبة على وجوه اكراد سوريا مؤكداً أنهم لم يكونوا يوماً طارئين على المجتمع السوري أو وافدين إلى المنطقة بل هم مكون أساسي وأصيل من نسيجها الإجتماعي مستخفاً بمحاولات أردوغان لإستمالتهم وهم من لم ولن يثقوا يوم به و لا بأغلوه …  وكان للشعب السوري بمختلف فئاته النصيب الأوفر من شلال محبة الأسد وعرفانه فلم يغب عن باله التأكيد بأن سورية صمدت بفضل الشعب الذي لولاه لانهارت الدولة بمعظم مؤسساتها ، فما الوطن سوى جسد تتداعى أطرافه واعضاؤه إن أصيب قلبه ،، وما قلوب الأوطان سوى شعوبها ، وأما إن كان الوطن قلباً .. فلن تكون الشعوب سوى دماؤه ونبضه … .

وكما كان لسيل محبة الأسد حضوره كان لقذائف براكينه وحممها حضورها ، تلك القذائف التي أصاب بعضها رأس أردوغان فأسقط عن وجهه قناع الخليفة الإسلامي المحارب في سبيل قضية فلسطين و نصرة الإسلام فيما هو مستعدٌ لبيع دينه ودنياه ووطنه في سبيل أمجاده الشخصية ، بعد أن حول تركيا مع صديقه أوغلو من دولة هدفها تحقيق حالة صفر مشاكل إلى حكومة تغرق في بحرٍ من صفر الأخلاق وما يحيط به من بحار أصفارٍ أخرى عددها الرئيس الأسد بحنكة وذكاء . وكان لبعض الحمم أن تصيب دماغ القزم الجنوبي الذي ينطبق عليه المثل الشعبي المصري ” أسمع كلامك أصدقك .. أشوف أمورك استعجب ” ، لكن الملفت كان تلك الرسالة المبطنة التي تفيد بأن القيادة السورية لن تكتفي بحالة الدهشة والإستغراب فقط وإلى ما لا نهاية ، وأن إجراءات تتخذ في الميدان لمواجهة أية تطورات على الحدود مع ” الجار الشقيق المعادي ” إلى الجنوب من سوريا  … .

تجاهل الرئيس الأسد للحالة الأعرابية ونشاطاتها وقراراتها وعمالتها ونذالة افرقائها كان ملفتاً ، وكان لافتاً تأكيده أنهم مجرد أدوات وأنهم لا يملكون قرار أنفسهم فكيف لهم أن يمتلكوا قرار مصير دولة بحجم ومكانة ودور وأهمية سورية ، لكنه شملهم حين تحدث عن أعداء الوطن بالقول أن مسألة إسقاط سورية بالنسبة لهم هي قضية حياة أو موت ، ولا ريب أنهم ألد الأعداء وأشدهم وضاعةً وخسةً . أطلق الأسد نيرانه باتجاه معظم افرقاء المعارضة فأصابها معنوياًوة تشريحياً  في مقتل وأظهرت مفرداته النارية  كل نواقص ” المعارضة السورية ” و- كل آثام وجراثيم وعفن وقرف وأمراض الجماعات الإرهابية التي يطلق عليها بعض من يسمي نفسه معارضاً معتدلاً ” المعارضة المسلحة ” ، وكشف حين ثبت تلك المعارضة بكل اشكالها على المشرحة و مزق جلدها ليتدفق السم الزعاف من اوردتها ولتظهر للعيان ودونما الحاجة لمجهر أو عدسات مقربة أورامها السرطانية المعندة على العلاج وآفاتها المستفحلة والمستشرية على طول وعرض جسدها من الرأس حتى أخمص القدمين ، فاضحاً من تعامل منها مع العدو وباع الوطن من أجل بضعة براميل من النفط أو الغاز أو من أجل أمجادٍ شخصية رسم له أسياده شكلها ومكانها وحددوا له ساعات أصفارٍ تتلوها ساعات أصفارٍ لاستلامها وتبوئها بعد الرحيل الموعود للقيادة السورية وسقوط سوريا شعباً وجيشاً وقيادة ، وهو ما أثبت الواقع الميداني أنه كما حلم إبليس بالجنة ،، وأنه ببساطة الهدف المستحيل العصي على التحقيق …. .

عن الميدان أخيراً كان للأسد رسائل الواثق بالنصر مستنداً إلى انجازات بواسل الجيش والقوى الأمنية وعناصر الشرطة مدعمين بلجان المقاومة الشعبية ، الإنجازات التي لن ندخل اليوم أيضاً في تعدادها لأن قائمتها تزداد وتزدان وتغتني كل يوم بإنجازٍ جديد بدءًا بما بات يعرف بمعركة الحسم في القصير وسيطرة الجيش السوري على عدة قرى في ريفه وقطع معظم طرق الإمداد بالسلاح عن الجماعات الإرهابية مروراً بالأنباء الموثوقة المتواترة عن سقوط المئات من الإرهابيين على إمتداد مساحة الوطن السوري و السيطرة على العديد من مخازن سلاحهم ، وصولاً إلى متابعة تعقيم بواسل الجيش السوري  لريف دمشق و إنتهاءً بقرب إنهائه السيطرة التامة على كافة القرى المحيطة بمطار حلب ، لهذا جميعه نقول أن ترابطاً وثيقاً كان يجمع ما قاله الأسد بين مجريات الأحداث على الأرض ووقائع معارك الميدان ساعة أعلن الرئيس السوري بشكل صريح أن الهدف لم يعد طرد الجماعات الإرهابية من منطقة ما تسيطر عليها لتنتقل إلى أخرى وإنما بات القضاء عليها .. ونقطة على السطر . الرسالة اوضح من الوضوح ذاته .. فمن يجاهر بهكذا إعلان أو تصريح يعلم أنه يستند إلى أساسٍ فولاذي وقاعدة عسكرية لا تزال صلبة متماسكة ، لم تنل منها الأشهر الستة والعشرون من عمر الحرب ولن تنل منها قادمات الاسابيع والأشهر ، هي إرادة مدعمة قبل هذا وذاك بحائط صدٍ شعبي يقدم التضحيات عن طيب خاطر في سبيل رفعة الوطن وحماية ترابه وصون كرامته . السؤال أخيراً .. هل يفهم أعداء سوريا فحوى الرسالة الأسدية ،، هل يستوعبون تهديداته العلنية والمبطنة ؟ … .

أقول أخيراً .. يؤمن عادةً  المؤمنون من البشر أن كل  البشر وغير البشر هم من خلق الله وإبداعاته وانجازاته ، وحدها سوريا .. يؤمن بعض أهلها اليوم أنها يوم تسترد بعض عافيتها وقوتها وألقها ، سوف تكون أول منتج أو حالة اعجازية كان لأهلها بدءًا من بواسلها الذين حملوا السلاح دفاعاً عنها وقدموا دماءهم وأرواحهم في سبيلها ،  وصولاً لمن تجرع العلقم وصبر على البلوى من أهلها ، وإنتهاءً بمن افترش ارصفتها والتحف سماها ولم يهجرها نحو خيام الذل والعار ، سوف يكون لأولئك شرف المشاركة في خلق سوريا الجديدة .. سوريا المستقبل ، في أول حالة اعجازية يقبل الله شريكاً في خلقها ويوكل للمخلوق بعض المهام ذات الطابع الإلهي … .

سيريان تلغراف | نمير سعد

(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)

Exit mobile version