أصيب الإسلام الوسطي “الشامي” بضربة قوية بمقتل العلامة محمد سعيد رمضان البوطي. ورغم البعد السياسي لاغتيال البوطي في هذه الفترة فإن قتل إمام الجامع الاموي وأحد أهم الرموز الدينية في دمشق داخل مسجد أثناء درس ديني يفتح حقبة جديدة من الصراع بين تيارات الإسلام الجهادية وتلك الوسطية المعتدلة التي كان علماء بلاد الشام وفي مقدمهم البوطي ممثلين حقيقيين لها.
وفي مشاهد لا تمت بأي صلة إلى إسلام “الشام”، عاصمة الحضارة الأموية، انتشرت الأشلاء والدماء في مسجد الإيمان في حي المزرعة الدمشقي، واختلطت مع نسخ من القرآن الكريم. فإسلام الشام المعتدل سمح بانتقال الدعوة المحمدية إلى أصقاع الدنيا المختلفة، وحافظ على دمشق منارة للتعايش بين مختلف الطوائف والأعراق على مر العصور، يزدهر فيها العلم ويمارس كل أتباع الديانات طقوسهم كما شاؤوا دون قمع أو استبداد. اسلام ملتزم صوفي الهوى قدم رسالة ثقافية مختلفة تمثل الإسلام المنفتح، وتختلف جذريا عن الإسلام المتزمت.
وفي قصة البوطي دليل على تسامح أهل الشام واستقبالهم الغرباء ودمجهم فيها وتمكينهم من ارتقاء أعلى المناصب فيها دون أي تمييز. فالعلامة الذي قصد الشام طفلا مع والده في العام 1933 من أصول كردية في تركيا، لكنه استطاع بعلمه استكمال الدراسة وأن يصبح عميدا لكلية الشريعة في جامعة دمشق، ومن ثم أماما وخطيبا على منبر الجامع الأموي، وبعدها رئيسا لاتحاد علماء الشام، رغم وجود مئات العلماء المسلمين البارزين من أصول دمشقية يسكنون المدينة أبا عن جد وتضرب جذورهم إلى حقبة ما قبل الإسلام.
ويجمع علماء الدين على أن البوطي واحد من أهم المرجعيات الدينية في العالم الإسلامي بمؤلفات وصلت إلى أكثر من 60 كتابا، وبرامج ومحاضرات تلفزيونية منتشرة في جميع أصقاع المعمورة. والبوطي المتأثر بالعلامة الدمشقي المعروف بميوله الصوفية الشيخ محي الدين بن عربي تميز عنه بأنه من المدافعين عن الفقه الإسلامي المذهبي والعقيدة السنية الأشعرية المحافظة، في وجه الآراء السلفية، ومن مؤلفاته كتاب بعنوان “اللامذهبية أكبر بدعة تهدد الشريعة الإسلامية” كما اعتبر في كتاب أخر ان “السلفية مرحلة زمنية مباركة وليست مذهبا إسلاميا”. ويجد كثير من علماء الدين شبها كبيرا بالإمام الغزالي نظرا لأسلوبه الهادئ، وقوة حجته.
دانت الحكومة والمعارضة اغتيال العلامة البوطي في المسجد، ومما لاشك فيه أن دوافع وأسبابا سياسية تقف وراء الاغتيال، فمواقف الشيخ البوطي الذي كان من نابذي التوجهات السياسية والعنف المسلح أثارت جدلا واسعا بعدما رفض الاحتجاجات ضد نظام الرئيس بشار الأسد، وشجب خروج المظاهرات من المساجد، وفي المقابل دعا إلى فتوى تحريم قتل المتظاهرين.
وفي مواقفه الأخيرة أيد البوطي دعوات الجهاد من أجل حماية سورية، وشبه في أحد خطبه جنود الجيش بالصحابة مما أثار سخطا في صفوف السلفيين.
ومن الواضح أن البوطي دفع ثمن انخراطه في السياسة في أثناء الأزمة الحالية مثلما البوطي دفع سابقا ثمن مواقفه السياسية أثناء حركة تمرد الإخوان المسلمين بقتل أحد أبنائه، فالرجل طالما أغضب أصحاب بعض التوجهات السلفية الجهادية وأهمها في العام 1993 عندما أصدر كتابه “الجهاد في الإسلام”.
وتبادلت المعارضة والحكومة الاتهامات حول المسؤولية عن عملية الاغتيال. رئيس الإئتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة الشيخ معاذ الخطيب قال إنه” لدينا معلومات وشواهد تؤكد بداية انقلاب في تفكير الدكتور البوطي رحمه الله ، ونعتقد أن النظام قام بتصفيته خشية موقف شجاع منه قد يقلب الموازين كلها”.
فيما نشر المكتب الإعلامي للرئاسة السورية بيانا صادرا عن الرئيس الأسد أكد فيه أن البوطي قتل لأنه رفع “الصوت في وجه فكرهم الظلامي التكفيري الهادف أصلاً إلى تدمير مفاهيم ديننا السمح” وتعهد الأسد في البيان “أن دماءك أنت وحفيدك وكل شهداء اليوم وشهداء الوطن قاطبة لن تذهب سدى لأننا سنبقى على فكرك في القضاء على ظلاميتهم وتكفيرهم حتى نطهر بلادنا منهم .. متمثلين نهجك الذي نذرت جل حياتك من أجله في كشف زيف الفكر الظلامي والتحذير منه.. هذا النهج سيبقى ركناً أساسياً من أركان العمل الديني في سورية”.
ورغم الأثر السياسي لاغتيال قامة مهمة مثل الشيخ البوطي، إلا أن الأثر الأكبر ديني ومرده المخاوف من انزلاق “الشام” إلى أتون صراع على أساس طائفي ومذهبي، وضرب نموذج الدين “الشامي” المتسامح مع الآخرين المحافظ على حدود الإسلام، وتقوية التيارات السلفية الجهادية التي بات يشتد عودها في سورية، وتسعى إلى بث أفكار وتصرفات غريبة عن سورية.
فانتقال القتل إلى داخل المساجد يمثل نقطة انعطاف خطيرة في مسار الأزمة السورية المحتدمة منذ مارس/ آذار 2011، وعلى جميع العقلاء في سورية والعالم منع انزلاق البلاد إلى حروب على أساس ديني، وحل الخلافات بعيدا عن المنابر الدينية، والأهم بعيدا عن إراقة الدماء.
فعدد القتلى الآن في سورية تجاوز ثمانين ألفا حسب بعض التقديرات لكن إضفاء صبغة دينية وانتصار أفكار الإسلام المتطرف، لا سمح الله، قد يجعل هذا الرقم متواضعا جدا مقارنة بما يمكن أن يحصل نتيجة التطرف الديني والمذهبي.
يسار سليم
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)