المخابرات الأردنية زودت “دولة العراق الإسلامية” بتقنية استخدام غاز الكلور ، وهؤلاء نقلوها إلى “جبهة النصرة” التي استخدمت مخزون معمل الكلور الذي تحتله ..
سيدخل يوم التاسع عشر من آذار/مارس في سوريا التاريخ ليس بوصفه اليوم الذي تشكلت فيه “حكومة التقسيم” الأميركية ـ الأخوانية فقط ، بل وبوصفه اليوم الذي دخل فيه السلاح الكيميائي ساحة الحرب الأهلية السورية للمرة الأولى أيضا .
وبينما كان العميل الأميركي غسان هيتو يحتفل بتنصيبه في استانبول رئيسا لحكومة “فيشية” في سوريا ، سيخجل منها حتى “فيشي” نفسه ، ربيب النازية في فرنسا ، كان العشرات من أهالي منطقة “خان العسل” ، من المدنيين والعسكريين المرابطين هناك ، يتساقطون في الشوارع بين شهيد وجريح بعد أن أصيبوا باضطرابات عصبية وخلل في التنفس وتقلص في حدقات العين ثم نوبات من التقلصات العضلية الشديدة يصعب معها تحكم الجهاز العصبي بالعضلات ، وفق ما ما رووه في المشافي التي أسعفوا إليها . وقد أسعف المصابون إلى أربع مشاف في مدينة حلب تقع في المنطقة التي يسيطر عليها الجيش السوري .
وفيما تبادلت السلطة وعصابات “الائتلاف” و “الجيش السوري الحر” المدار من قبل المخابرات التركية الاتهامات بالمسؤولية عن الجريمة ، وفيما كان مشغلو هؤلاء العملاء في واشنطن ولندن وباريس ومقر الحلف الأطلسي يؤمنون لهم الغطاء السياسي من خلال نفي التهمة عنهم ، كنا نحن نبحث عن أصل القصة وفصلها في مكان آخر من أجل الوصول إلى الحقيقة .
بدأت الجريمة حين سقط صاروخ ، يبدو أنه محلي الصنع ، على منطقة “خان العسل” بعد أيام قليلة على تطهيرها من عصابات “جبهة النصرة” وحلفائها ، ما أدى ـ وفق آخر إحصائية ـ إلى استشهاد 31 شخصاً ، بينهم 10 جنود سوريين ، وإصابة 110 ، غالبيتهم في حالة خطرة ، علما بان قسما كبيرا منهم من المدنيين من أبناء المنطقة .
وفيما سارعت وسائل الإعلام والخبراء إلى التكهن بطبيعة هذا السلاح المستخدم ، حيث ذهب بعضها إلى القول إنها غاز “السارين” ، كما فعلت صحيفة “السفير” التي تصدر بتاريخ اليوم الأربعاء ، وبغباء منقطع النظير لا تحسد عليه ، قال بعضها الآخر إنه “الخردل” أو “الإيبيت” .
أما الصورة المتوفرة (منشورة أعلاه) لمكان سقوط الصاروخ / القذيفة تشير إلى أن المادة المستخدمة في الحشوة هي غاز الكلور وليس أي شيء آخر . ودعم هذه النظرية خبيرين بريطانيين في مجال الكيمياء عرضت عليهما الصورة . وهو ما تؤيده أيضا إفادة مصور وكالة “رويترز” الذي وصف المشهد الذي رآه في المنطقة المستهدفة بالقول “رأيت في الأغلب نساء وأطفالا . قالوا إن الناس يختنقون في الشوارع ، والهواء مشبع برائحة الكلور ، إن الناس يموتون في الشوارع وفي منازلهم” .
أصل الحكاية :
نهاية الصيف الماضي ، تقريبا في آب / أغسطس ، تمكن مسلحو “جبهة النصرة” ، بتوجيه من المخابرات التركية ، من الاستيلاء على المعمل الوحيد من نوعه في سوريا في مجال تعبئة غاز الكلور المسال .
وهو مصنع يقع على بعد حوالي 50 كم شرقي حلب (على طريق حلب ـ الرقة) ، ويتبع للقطاع الخاص في معظمه ، بينما تساهم الدولة بنسبة بسيطة في رأسماله .
وبسبب حساسية الأمر وخطورته ، حيث تستطيع مخزوناته من غاز الكلور تدمير مدينة حلب بكاملها من خلال تحويل تلك المخزونات إلى قنابل كيميائية بطرق تقنية بسيطة لا تحتاج إلا لصاعق تفجير ، اتصلت السلطات السورية بالأمم المتحدة وفريقها (فريق الأخضر الإبراهيمي) في دمشق ، طالبة منهم التدخل وإقناع المسلحين بالانسحاب منه ، وقد لعبت روسيا دورا أساسيا في هذه التحركات لإدراكها خطورة الأمر ، لكن المسلحين رفضوا ذلك ، رغم أن المساومات معهم وصلت حد أن تقبل السلطة والجهات الدولية بسيطرتهم عليه ، لكن بشرط أن يكون فيه مراقبون دوليون للحيلولة دون استخدام المخزونات لغايات عسكرية .
وفي النهاية جرى الاتفاق على إقفال المعمل ، لكن بقيت الإسطوانات في داخله ، حيث رفض المسلحون إخراجها ونقلها إلى مكان آمن ، بل ورفضوا حتى اقتراحا آخر بإلقائها في نهر الفرات .
يحتوي المعمل على عشرات الأسطوانات التي يبلغ وزن كل منها مئة كيلوغرام . وفي المجموع ، يمكن الحديث عن حوالي ستة أطنان من غاز الكلور في أقل تقدير كانت موجودة في مستودعاته عند الاستيلاء عليه .
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن كل أسطوانة منها (وهي تكفي لتعقيم مياه مدينة كبيرة بحجم دمشق طيلة شهر كامل) ، يمكن أن تبيد بلدة متوسطة الحجم عدد سكانها 20 ألفا ، يمكن القول إن محتويات المصنع قادرة على إبادة سكان حلب ودمشق بأكملهم !
جبهة النصرة : التنظيم الوحيد في سوريا الذي يعرف تقنيات استخدام غاز الكلور
تعود جذور خبرة “جبهة النصرة” في استخدام غاز الكلور كسلاح كيميائي إلى العراق . فبعد انسحاب جيش الاحتلال الأميركي ، وفي سياق حرب الاستخبارات الأردنية ـ السعودية في العراق لتقويض حكومة المالكي ، المعتبرة جوهرة “الهلال الشيعي” الذي كان الملك الهاشمي المتصهين أول من تحدث عنه ، أقدمت المخابرات الأردنية على تسهيل تهريب غاز الكلور من الأردن إلى تنظيم “دولة العراق الإسلامية” الذي كان أول من استخدم هذه التقنية (بمساعدة المخابرات الأردنية والسعودية) كـ”سلاح كيميائي”.
وهذا من الأمور المسكوت عنها إعلاميا في سياق تغطية حرب الإبادة المذهبية التي تقوم بها المخابرات السعودية في العراق (السيارات المفخخة التي يجري تفجيرها بشكل شبه يومي ، وبالجملة ، في مختلف المدن العراقية ، بحيث وصل معدل القتل الشهري إلى أكثر من ألف مواطن من المدنيين الأبرياء!!) .
وبالنظر لكون “الجيل الأول” و “الجيل الثاني” من مؤسسي وكوادر “جبهة النصرة” جاؤوا أصلا من تنظيم “دولة العراق الإسلامية” كما أصبح ثابتا ومعروفا ، فقد كانوا الوحيدين من بين المسلحين السوريين الذين خبروا استخدام هذه التقنية . هذا فضلا عن أن تنظيم “دولة العراق الإسلامية” تعمّد أن تكون الدفعات الأولى من مسلحيه الذين أرسلهم إلى سوريا اعتبارا من خريف العام 2011 ، في سياق تأسيس “جبهة النصرة” ، من ذوي الخبرات في عمليات التفجير والنسف .
قبل أسابيع ، وطبقا معلومات مستقاة من أوساط المسلحين في حلب ، بدأت “جبهة النصرة” تصنيع قذائف غاز الكلور لاستخدامها في مدافع الهاون والصواريخ محلية الصنع في ريف حلب ، اعتمادا على مخزون معمل غاز الكلور الذي وضعت يدها عليه . علما بأن القذيفة أطلقت من منطقة “كفر داعل” شمال غرب حلب ، التي تخضع بالمطلق للتنظيم المذكور .
ما يؤكد أن القذيفة التي استخدمت يوم أمس في “خان العسل” كانت شحنتها من غاز الكلور ، هو الآثار التي تركتها في منطقة الانفجار (الصورة أعلاه) .
وقد عرضت الصورة على اثنين من الكيميائيين البريطانيين ، فكانت إجابتاهما شبه متطابقتين دون أن يعرفا أين التقطت الصورة وماهي مناسبتها ، أحدهما قال دون تردد “آثار احتراق غاز الكلور” ، أما الثاني فقال “إنها مادة كيميائية ذات طبيعة غازية أو يمكن أن تتحول من سائل إلى غاز ، ولكن لا أستطيع تحديدها” .
تبقى الإشارة إلى أن ما يلفت في الأمر هو أن للجريمة بعدا طائفيا ومذهبيا على الأرجح ، بالنظر لأن أغلبية سكان المنطقة من الأقليات الإسلامية المصنفة في فئة “الكفار” حسب قاموس الثورة الوهابية في سوريا ، فضلا عن حوالي عشرين بالمئة من المسيحيين أبناء القومية الأرمنية ، وفق ما ذكره بعض من أبناء حلب على دراية بالتركيب الديمغرافي لأهالي المحافظة وتوزعهم على مناطقها !
سيريان تلغراف