الولايات المتحدة تنفي ان تكون وراء لعبة الدومينو في الشرق الاوسط. كل ما في الامر ان الانظمة صنعت الجماهير على صورتها. وفي سياق جدلي مذهل، صنعت الجماهير الانظمة على صورتها ايضاً. والمشكلة الآن ان اليأس هو الذي يشعل الثورات، اليأس وحده الذي جعل الجماهير اياها، وقد خرجت من مخابئها، تصنع حتى الله على صورتها.
هذا الكلام مقتبس من مقاربات اخيرة لوليم كريستول يقول فيها ما معناه ان الثورات انتجت، فعلاً، ذلك الاله الذي يمكن وصفه، دون تردد، بـ «اله اليأس»، الذي يوصل الى لا مكان. في الحالة الراهنة يوصل الى العدم، ودون ان يقف المنظّر البارز للمحافظين الجدد عند هذا الحد، بل هو يعتبر ان الناس هناك الذين طالما تحدثوا عن «الاله الاميركي» وقاتلوا ضده انما سيبتهلون وفي وقت قريب، الى هذا الاله لكي يبقى في الشرق الاوسط لان البديل الذي بدأت ملامحه تظهر شيئاً فشيئاً هو تحويل المنطقة الى حقل من الجماجم!
كريستول يقول ان رؤيته هذه نتاج قراءة بانورامية، وعميقة، للمشهد، كما لو ان وكالة الاستخبارات المركزية لم تكن هي وراء اسامة بن لادن للجهاد ضد الاحتلال السوفياتي في افغانستان، ولم تكن وراء اختراع حركة «طالبان» لحراسة انابيب الغاز في شمال افغانستان، والممتدة من تركمانستان الى بلوشستان فالمحيط الهندي، ولم تكن وراء تحويل «الاخوان المسلمين» الى حزب اميركي في المنطقة وقد اكتشفت لديه ذلك الشبق السيزيفي الى السلطة…
الآن، تغسل واشنطن يديها من كل ما يجري، وكوندوليزا رايس التي بشرّت من بيروت بالشرق الاوسط الجديد، تقول ان هذا ليس المشروع الذي نظرنا اليه. غريب ان تكون شاعرية الى ذلك الحد، وتقول انها لطالما نظرت الى الشرق على انه مستودع لللآلىء. الآن ثمة شكل آخر. لم يكن للولايات المتحدة اي دور في استنزاف الثروات وفي تكريس ثقافات القرون الوسطى من خلال حمايتها انظمة ترعرعت في رحاب الف ليلة وليلة ولا تزال تقبع تحت ملابس شهرزاد.
والمثير ان تقول رايس ايضا ان مفهومها للشرق الاوسط يعني تفكيك البنية الايديولوجية الرثة للمجتمعات ما يفضي، تلقائياً، الى قيام انظمة خلاقة وتعيد ربط هذه المجتمعات بعقارب الساعة.
لاحظنا في لبنان ما كانت تبتغيه كوندوليزا رايس وكل المحافظين الجدد، حتى ان زبغينو بريجنسكي يقر بأنه عاش على اعصابه طوال عهد الرئيس جورج دبليو بوش لانه كان يخشى، وبعدما بلغت هيستيريا القوة ذروتها، ان يلجأ الى الجراحة النووية في صياغة مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي وضعه على الورق دونالد رامسفيلد وبول ولفوويتز وريتشارد بيرل…
الآن، يقال ان المنطقة ضائعة لان اميركا ضائعة. ما يحدث في سوريا وفي العراق وفي امكنة اخرى هو نتاج الضعف الاميركي. ادارة باراك اوباما، وكما يقول بول كروغمان، هي على حق عندما تكون حذرة، او مرتبكة، فالمسار الاقتصادي بالغ الدقة. الارقام لا الجنرالات هي التي تقول كلمتها الآن، وحين ينهار الفرد الاميركي لا بد ان تنهار الامبراطورية الاميركية..
ذات مرة استعرنا القول الشائع في واشنطن إن الاستراتيجية التي تعتمد حالياً هي «استراتيجية نهش الكلاب»، اي التعاطي الآني والموضعي مع الاحداث دون ان تكون هناك رؤية او منظومة استراتيجية متكاملة، فثمة جدل في واشنطن، جدل واسع النطاق، حول البقاء في الشرق الاوسط او تركه لـ«السيد الفراغ» مع حلول عام 2020، اي عندما تستغني الولايات المتحدة عن نفط المنطقة من خلال النفط الصخري الذي تمضي، وبخطوات هائلة، نحو زيادة انتاجه…
هناك، بطبيعة الحال، من يرى ان المنطقة تحولت الى «مصنع للابالسة»، وبحسب تعبير كارل روف، ومن الافضل بل من الضروري تركها لهذه الابالسة، فيما يوجد رأي آخر يعتبر ان الولايات المتحدة، لكي تحتفظ بقيادتها للعالم على الاقل القيادة الاستراتيجية في ظل تحولات دراماتيكية في الخارطة الاقتصادية، لا بد ان تظل ممسكة ليس فقط بحقول النفط في المنطقة وانما ايضا بالمضائق والممرات البحرية…
اذاً، لا بد من ان تبقى العصا الغليظة هناك ودون الحاجة الى الحروب الا اذا كانت الحروب الصاعقة والاقل كلفة، ومع اعتبار ان هناك داخل البنتاغون من يصف الطائرات من دون طيار والتي تتمتع بمواصفات تقنية و«بشرية» تقارب الخيال، بـ «الطيور المقدسة»، وعلى غرار» الطيور الابابيل» في الاسلام!
لا حاجة للنفط، كما لا حاجة للخوف على اسرائيل التي باتت طموحاتها اكبر بكثير من «اسرائيل الكبرى». سوريا تحطم نفسها بنفسها، والحديث عن تسوية وشيكة اقرب ما يكون الى الملهاة الديبلوماسية، والعراق آيل الى التفكك، التفكك الدموي بطبيعة الحال، فيما مصر دخلت في الفوضى الابدية، ناهيك بديكتاتورية الفتاوى التي هي اشد هولا من اي ديكتاتورية اخرى والتي تستشري في ارجاء المنطقة. اما الاردن فإن مصيره دائما على الطاولة، وعلى الحافة..
من هناك في هذا المشرق العربي؟ لا شيء سوى دوي الدم ودوي الغرائز. اميركا حائرة، وروسيا تلعب على نقاط الضعف، والصين منشغلة في مشاغلة الدول المجاورة والتي تحجب جزرها التنين عن المحيط الهادىء، فيما اوروبا تمتطي حصان دونكيشوت…
اسوأ من ديكتاتورية الافراد، وديكتاتورية الاحزاب، وديكتاتورية القبائل، انها ديكتاتورية الفتاوى. ذاك العراء الايديولوجي الذي لا ينتج سوى الفوضى. المستقبل بين شفتي استاذ البلاغة في الازهر محمود شعبان والذي افتى بهدر دم قادة المعارضة في مصر. ثمة كوارث كثيرة تنتظرنا على ايدي اساتذة البلاغة. إياهم اساتذة الفتاوى، اذا لم تكن ثورة العقل، الآن وليس غداً!
نبيه برجي | الديار