بداية أرجو منكم قراءة المحضر التالي بتمعن ، وإن بدى طويلاً بعض الشيء ، إنه يشي بالكثير ، ويختصر الكثير من القصة . إلتقى في باريس بوساطة من وزير خارجية فرنسا ” لوران فابيوس ” وبحضوره ، وزير الخارجية الروسي ” سيرجي لافروف ” مع ” قادة من إئتلاف الدوحة ” ، فاستمع لهم قرابة الساعة وهم يشرحون رأيهم ، ثم توجه إلى ” قادة المعارضة ” سائلاً :
” تعالوا نتناول قضيتين تقلقان العالم من تداعيات الوضع في سورية ، فمن جهة توجد قضية جبهة النصرة ، كتنظيم إرهابي ناشط على الأراضي السورية ، ومستقبل وزنه ، وكيفية التعامل معه إذا دُعمت المعارضة وتحقق لها ما تريد ، ومن جهة قضية السلاح الكيميائي بيد الحكومة ، وكيفية التعامل معها إذا إستخدمها الجيش . ففي القضية الثانية قدمنا نحن الضمانات ، لكن في الأولى ، لم يتمكن أحد من دول الغرب على تقديم أي ضمانة ، فهل أنتم قادرون على تقديم مثل هذه الضمانة ؟ .
وإذا كنتم قادرين ، فيجب أن تكون نسبة القوة بينكم و بينها في الميدان طاغية بصورة كاسحة لحسابكم ، و إذا كان هذا هو الوضع فبإمكانكم الاستغناء عنها وعن وجودها وإنهائه . وفي هذه الحال لنبدأ بخطوة عملية واحدة مهدت لكم واشنطن اتخاذها ، بتصنيف النصرة على لوائح الإرهاب . و عندما تعلنونها تنظيماً إرهابياً ، تنفتح أبواب التفاوض معكم بصورة جدية . و عندما تُحققون عزلها وتصفية وجودها ، يصدق العالم أنكم قوة حقيقية ، ويتعامل معكم بغير حسابات العداء مع الحكومة وإستخدامكم لتصفية الحسابات معها . فهل تستطيعون ذلك ؟ .
إذا كنتم عاجزين عن مقاتلة الحكومة بدون النصرة ، فهذا يعني أنها القوة الرئيسية في الميدان ، ومن يعجز عن قتال النصرة بمفردها والحكومة بمفردها ، كيف له أن يطلب منّا تصديق أنه قادر على قتال الاثنين معاً ؟ وطالما أنكم و النصرة معاً ، عاجزون عن تحقيق النصر على الحكومة ، فكيف تريدوننا أن نصدق أنكم تستطيعون وحدكم النصر على الحكومة وجبهة النصرة معاً ؟!.
إذا كنتم قادرين على الإمساك بالميدان ، فهذا يعني أنكم قادرون على تنفيذ وقف لإطلاق النار . ونحن نعطي ضمانتنا لتقيد قوات الحكومة بهذا الاتفاق ، فهل تضمنون قدرتكم على ذلك ؟.
إذا كنتم واثقين من وقوف أغلبية الشعب السوري معكم ، فلماذا تعقدون مهمتنا بطلب شيء مِن مَن يُفترض أنه عدوكم ؟ فتقولون إن على المجتمع الدولي الضغط على الرئيس الأسد ليتنحى ، وهذا أمر بيد طرف ثالث؟ وما يستطيعه المجتمع الدولي إذا حققتم وقفاً للنار وتقيدتم به وفرضتموه على جماعاتكم ، هو التمهيد للإستفتاء على مستقبل سورية بعدة خيارات نضمن لكم أن تكون مفتوحة و تضعون ما تريدون بينها، بما في ذلك الاستفتاء على تنحي الرئيس أو إعلان سورية دولة إسلامية، ويضع الحكم بالمقابل ما يريد، و نعرف نحن في المجتمع الدولي ماذا يريد الشعب السوري، ونضمن رقابة دولية على الاستفتاء، فهل أنتم قادرون على ذلك؟. إذا كنتم تخشون مثل هذا الاستفتاء مبكراً نتفهمكم . فهل يمكن لانتخابات برلمانية سريعة تجري وفقاً لقانون توافقي ، يدير التفاوض حوله الأخضر الإبراهيمي ويجري في ظل مبادرته ومراقبين دوليين من كل العالم ، بعد وقف شامل للعنف ، ويعطيكم فرصة التمهيد لتنظيم صفوفكم سياسياً تمهيداً للانتخابات الرئاسية ، فهل تستطيعون ذلك؟ . تناوب على الكلام الحضور الخمسة من المعارضة دون أن يقدم أحدهم جواباً على أسئلته، رغم مرور ثلاث ساعات من الكلام ، فقال بالروسية ” Диалог глухих ” أي ” حوار طرشان ” . ونظر إلى نظيره الفرنسي قائلاً : لقد حان وقت النوم ، الجماعة يريدون أن نقاتل عنهم ونجلب لهم الحكم على طبق من ذهب ، و بعدها نقاتل النصرة منعاً لسلبهم الحكم ، ونقاتل من يرفضهم من الشعب السوري ، فإذا كانت فرنسا راغبة وقادرة فلتفعل ، لأن روسيا غير راغبة و غير قادرة ” .
بعد هذا الإجتماع الذي بقي بعيداً عن الإعلام ، بدأت سلسلة من الإخفاقات على شكل محطات تضرب هذا ” الإئتلاف ” ومن خلفه ، بفعل الصمود الشعبي وإستبسال الجيش العربي السوري المذهل ، وحنكة وصبر القيادة السياسية . وظهر مدى هشاشته وأن وجوده وتكونه وبقاءه مرتبط بقرار وإرادة خارجية فقط . إليكم بعض هذه المحطات :
1 – قام جهاز المخابرات الفرنسية بتوجه كتاباً لحكومة بلاده ، لتخفيف كمية السلاح المرسلة إلى ما يسمى ” الجيش الحر ” لسببين مهمين . ” الأول أن الجيش العربي السوري ، ومن خلال عمليات عسكرية نوعية صادر كميات كبيرة من هذا السلاح . والثاني أن كتائب هذا الجيش ” الحر ” تبيعه للتكفيريين والجهاديين ” . وقد ورد في الكتاب ملاحظة مهمة وهي ” أن هذا السلاح لا يحقق الحد الأدنى من النتائج المطلوبة ، وأصبح يشكل خسارة فادحة للذين يصدرونه . كما أن وقوعه بيد الجيش السوري يشكل دليل إدانة على التدخل الدولي في الشؤون السورية ، والذي قد يستخدم أمام المحافل الدولية ” .
2 – في توصيات رسمية لمجلس الأمن القومي الأميركي رُفعت إلى البيت الأبيض ، يؤكد فيها ( أن إمكانية إسقاط النظام السوري بالعمليات المسلحة سواء من ” الجيش الحر ” أو ” التنظيمات الإسلامية ” ، أمر مستحيل ووهم كبير يجب التخلي عنه . وأن على الإدارة الأميركية أن تكبح جماح الحلفاء الأوروبيين والخليجيين والأتراك ، وتخفف من إندفاعهم في عمليات التمويل والتسليح . لإعطاء فرصة واسعة لمشروع حل سياسي ، يأخذ بالحسبان المصالح الأميركية في المنطقة ) .
3 – قال فورد السفير الأميركي في دمشق ، في مقابلة مع صحيفة ” الحياة ” اللندنية قبل يوم من الغارة الصهيونية على جمرايا ، نشرتها الصحيفة يوم الأربعاء 30/1/2013 أن ” هذا النظام سيسقط عاجلاً أم آجلا ، وأعتقد أن الحل العسكري سيحسم الوضع بالنهاية لصالح المعارضة ، وذلك بأن يسيطر الجيش الحر على دمشق وباقي المدن ، ولكن ذلك سيستغرق بعض الوقت، وبثمن باهظ ” ، مضيفاً أن ” الجانب الأمريكي كان يفضل على ذلك الحل السياسي الذي يؤدي إلى تنحي الأسد ، وإنشاء حكومة انتقالية لتسيير الوضع ” ، متهماً ” النظام السوري بتعطيل اتفاق جنيف ” . فجاء الرد على لسان ” الكسندر لوكاشيفتش ” في بيان صدر يوم 1/2/2013 ” لا نعرف مدى ارتباط نشر هذه الاهجوة السياسية في يوم تعيين وزير خارجية جديد لأمريكا.. نأمل ان تكون مجرد صدفة بسيطة وليس اعلان برنامج وزارة خارجية الولايات المتحدة حول سورية ” . وأضاف ” ولم يطرح احد في جنيف سؤالا ، كما يريد ان يصوره سعادة السفير : اما تنحي الأسد او الحل العسكري . والحديث هناك دار حول حوار بين جميع اطراف النزاع بدون شروط مسبقة ، وهذا هو اساس وماهية اعلان جنيف ، التي يفسرها سعادة السفير بشكل حرّ لدرجة تشويه الفكرة . ان الجوهر هو قراءة متعمدة غير نزيهة للوثيقة، التي كلفت الكثير من الجهود من بينها جهود الممثلين الامريكيين ” .
4 – في 30/1/2013 يصرح الخطيب ” بلغني من وسائل الإعلام ان النظام في سورية يدعو المعارضة الى الحوار ، وكلف رئيس الوزراء بإدارة المشروع ، وان وزير داخلية النظام يدعو قيادات المعارضة الى العودة الى سورية … ولكن لما صار المواطن السوري في أزمة غير مسبوقة ، وكمبادرة حسن نية للبحث عن حل سياسي للازمة ، ولترتيب الامور من اجل مرحلة انتقالية توفر المزيد من الدماء ، فانني أُعلن بانني مستعد للجلوس مباشرة مع ممثلين عن النظام السوري في القاهرة او تونس او اسطنبول . ولما لم يكن من حق احد المساومة على الحرية التي دفع شعبنا ثمنها غاليا من دمه ، لذا فاني اشترط لشعب سورية امرين أساسيين كثمن اولي للجلوس مع ممثلين عن النظام : أولا : إطلاق سراح مائة وستين ألف معتقل من السجون ، وأولها النساء ومعتقلي المخابرات الجوية وسجن صيدنايا. ثانيا : الإيعاز الى كل سفارات النظام بمنح جميع السوريين الذين انتهت جوازاتهم جوازات جديدة او تمديدها لمدة سنتين على الاقل . بعد أن كان الحوار يعقد فقط لأجل رحيل النظام لا غير .
5 – بعد أن أُعلن عن إجتماع سيجمع كلّ من لافروف وجو بايدن نائب الرئيس الأميركي والابراهيمي والخطيب في ميونخ ، وعلى إثر الغارة الصهيونية على جمرايا ، أعلن نائب وزير الخارجية الروسي ” غينادي غاتيلوف ” ، أن لا إجتماع بين بايدن ولافروف . كما أُعلن في موسكو عن انسحاب روسيا من اتفاق التعاون الأمني ومكافحة المخدرات مع الولايات المتحدة .
بدا وكأن المنطقة مقبلة على بركان ضخم لا أحد يعرف متى ينفجر ، ولا الى أي مدى سيرسل حممه ، وكم من البشر والجغرافيا سيحرق . لم تهدأ الهواتف وخطوطه الساخنه ، مركز الإتصالات ومحورها كان دمشق . الكل يريد أن يعرف بأي شيء تفكر القيادة السورية ؟ هل سترد ؟ وكيف سترد ؟ ومدى هذا الرد ؟ كان الأمر أكثر من قاسي ، والليل لم يشفع لأهله بالراحة . أدرك الكل أن الرئيس بشار حافظ الأسد أمسك باللحظة السياسية من العنق ، وأستغل الخطأ الكارثي الذي إرتكبه كيان العدو إلى أقصى الحدود ، وبدلاً من أن تسقط سوريا ، حوله لأداة ليُخرج فيها سوريا من أزمة داخلية ويضعها في موقع الأزمة الإقليمية . أزمة إقليمية أصبح فيها الخطيب وإئتلافه ومليشيا الحر … مجرد تفصيل صغير ، وبهلوانيات الإبراهيمي سماجة وخارج السياق . والإقليم لمجرد صغير متلقي ومشدوه . إنها أزمة تطال دول من حيث وجودها ، وتدفق طاقة وثروات ، وفوضى عارمة في مكان لا يحتمل أي مقدار منها . إستنفرت تشكيلات المقاومة في لبنان ، وتأهبت إيران ، ووضعت كامل إمكانياتها خلف قرار الرئيس بشار حافظ الأسد ، أمين مجلس الأمن القومي سعيد جليلي ” نحن معكم في أي خيار ستتخذونه ، وفي أي إتجاه ” . وضعت كافة سيناريوهات الردّ على طاولة الأسد .
تلقى الرئيس بشار حافظ الأسد إتصالات تتمنى منه ” التريث ” لأيام ، يُعين الملك السعودي الأمير مقرن نائباً ثانياً له ، والأمير مقرن هذا ، هو مهندس المصالحة التي جرت بين الرئيس بشار حافظ الأسد والملك عبدالله آل سعود في قمة الكويت الإقتصادية . فقد تعهد الأمريكي ” بتقديم ” شيء مهم في ميونخ . أعلن أن لافروف بأنه سيلتقي بايدن ، كما أنه سيلتقي كلاً من الابراهيمي والخطيب . إلتقاهم لافروف ، وأطّلع على ما يحمله بايدن ، سمع منهم ، وبقي أن يُقيّم الأسد ما حملوه . إن الردّ على غارة ” جمرايا ” كان أقرب وأقوى مما نتخيل ، وما زال خيار الردّ قائما . ولكن إتخاذ القرار بالتنفيذ يعتمد بالدرجة الأولى والأخيرة على ما قدمه بايدن في ميونخ إلى لافروف . ومدى إقتناع الرئيس بشار حافظ الأسد بأن هذا الطرح يحقق مصالح سوريا وطنيّاً وعسكرياً وأمنيّاً وسياسياً وإقتصاديــــاً .
سمير الفزاع | بانوراما الشرق الأوسط