سوريا في حالة حرب. بغض النظر عن توصيف أطرافها، نظاماً وثواراً، دولة وإرهابيين… إنها حالة حرب. والسياسة في الحروب يرسمها المقاتلون،
أو كما يحلو لأحد المسؤولين السوريين القول: «ترسمها أحذية المقاتلين». في خطابه أول من أمس، تحدّث الرئيس السوري بشار الأسد بثقة رأى البعض أنها مفرطة. لكن الأسد، وبحسب بعض المطلعين على ما يجري في الميدان السوري، استمدّ ثقته التي يصفونها بـ«الواقعية» من قدرات جيشه، وممّا حققه هذا الجيش خلال الأسابيع الثمانية الأخيرة.
في تشرين الثاني الماضي، تعرّضت العاصمة السورية دمشق والمناطق المحيطة بها لأكثر من هجوم. في الأول، كانت جبهة النصرة ـــ الفصيل الأقوى في صفوف المعارضة المسلحة ـــ تسعى للإطباق على دمشق من محورين رئيسيين: من دوما ومحيطها نحو العباسيين، ومن داريا باتجاه بساتين كفرسوسة، ومنها إلى قلب العاصمة. وصلت إلى أجهزة الأمن السورية معلومات عن هذا المخطط، فنفّذ الجيش السوري عمليتين، على المحورين، ما دفع الجبهة إلى تأجيل عمليتها. لكن «النصرة» عززت مواقعها في داريا ومعضمية الشام، وهاجمت عدداً من الثكن العسكرية في الريف، قبل أن تبدأ الزحف نحو مطار دمشق الدولي، هادفة إلى احتلاله وقطع الطريق بينه وبين العاصمة.
تضيف المصادر ذاتها: «بصورة مفاجئة، وبسهولة تامة، تمكن مقاتلو النصرة من احتلال عدد من المراكز العسكرية الحساسة في ريف دمشق، بينها مواقع للدفاع الجوي. ومقارنة بالمعارضين المسلحين، بدا الجيش السوري خلال الأسبوع الأخير من تشرين الثاني أشبه بقوة جبارة، لكنها غير قادرة على صدّ هجمات مقاتلين ينفذون خططاً يشرف عليها ضباط أجانب ذوو خبرة في الحروب وفنونها. للمرة الأولى منذ تموز 2012 (تفجير مبنى الأمن القومي والهجوم الواسع للمعارضة على دمشق وريفها) استشعر النظام الخطر المحدق بعاصمته الحصينة. راجعت القيادة العسكرية، في وزارة الدفاع وفي القصر الجمهوري، ما جرى في محيط الشام. تبيّن، بحسب مصادر وثيقة الصلة بالقيادة السورية، وجود ثغر عديدة تؤدي إلى خسائر قاسية من دون مبرر (كسقوط بعض المواقع في أيدي جبهة النصرة رغم وجود معلومات مسبقة عن نية الهجوم عليها). وسرعان ما أجرت القيادة السورية تعديلات في آليات اتخاذ القرار الميداني، فضلاً عن مناقلات شملت ضباطاً ومسؤولين، بهدف تحسين القدرة العملية للقوى العسكرية على الأرض. نتائج هذه التغييرات بدأت بالظهور في وقت قصير، فصدّ الجيش السوري الهجوم على المطار وطريقه، بهدف تحويل هذه المنطقة من ساحة إشغال عسكري إلى ساحة إشغال أمني، قبل الانتقال إلى المرحلة التالية، أي إعادة إحكام السيطرة عليها». لم يطل الأمر حتى استعاد الجيش السوري زمام المبادرة، على حدّ وصف المصادر نفسها، وانتقل من الدفاع إلى الهجوم. تغيير آليات اتخاذ القرار العسكري، والتعديل الذي طرأ على جزء من نظم «القيادة والسيطرة»، سمحا بتحويل المشهد العسكري العام من سلبي جداً في نهاية تشرين الثاني إلى إيجابي قبل خطاب الرئيس السوري. باشرت قوات الجيش الهجوم على المناطق التي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة جنوبي دمشق وشرقيها. كذلك جرى التقدم في عدد من النقاط الساخنة في الشمال، وخاصة في حلب، وأيضاً في مدينة إدلب التي لا تزال بيد الجيش السوري. وتقرر الانسحاب من نقاط لا قيمة لها عسكرياً، لكن كلفة الاحتفاظ بها هائلة، لصالح تعزيز مواقع أخرى ينبغي الصمود فيها بسبب رمزيتها، أو لأن لها أهمية استراتيجية بما يتيح استخدامها لاحقاً للتقدم نحو مواقع المعارضة.
هذه الرؤية «المتفائلة» للوضع الميداني من الجانب الرسمي السوري، التي استند إليها الأسد لإلقاء خطابه في دار الأوبرا في دمشق، تتقاطع إلى حد بعيد مع جزء من رواية المعارضة. فبعض المعارضين لنظام دمشق، وممن كانوا يبشرون بسقوطه خلال أسابيع أو أشهر، باتوا اليوم أقل تفاؤلاً مما مضى. صار الحسم بالنسبة إليهم محصوراً بالسيطرة على مناطق الشمال السوري حصراً. يقول أحد عتاتهم بعيداً عن الكاميرات: «الشمال سيصبح برمته تحت سيطرتنا خلال أسابيع، أو أشهر في الحد الأقصى. وبعد ذلك، ربما سيستمر القتال سنوات في المناطق الوسطى والجنوبية، إلا إذا وقع أمر طارئ من خارج السياق».
سيريان تلغراف