في الفيزياء الطبيعية لا تنكسر القوانين وتبقى نافذة إلى الأبد.. فالجاذبية ستبقى بقاء الوجود وكذلك سرعة الضوء والصوت.. وفي الفيزياء يحسم العالم البريطاني الكبير ستيفن هاوكينغ (الذي يجلس على كرسي اسحق نيوتن في جامعة كمبريدج) التكهنات والآمال بشأن السفر عبر الزمن فيقول: “لن يمكن للناس السفر عبر الزمن لأن ذلك يعني أن يكون عندنا زوار من المستقبل وهذا ما لا نراه”.. هذا في الفيزياء الطبيعية ولكن هل هناك فيزياء اجتماعية أو تاريخية بحيث يسافر الناس عبر التاريخ؟؟ أو تسافر القضايا الفكرية عبر ثنايا التاريخ نحو الماضي أو المستقبل؟؟.. لم أسمع بمصطلح الفيزياء الاجتماعية أو التاريخية بعد ولا أستطيع ادعاء اختراع شيء جديد.. لكني سأقرن هاتين الكلمتين معا وأعقد قرانهما في سورية (الفيزياء مع التاريخ).. فكما أن للتاريخ حركة فإن لتفاعلات التاريخ وتحركاته عبر الزمن صفات ربما ستتكشف وصارت تحتاج توصيفا جديدا وربما يحتاج التاريخ وسائل أخرى لاستقصائه بعلم جديد..
منذ اندلاع الربيع العربي والأزمة السورية هناك شيء معقد التركيب تسبب به الارتجاج الاجتماعي الصناعي الناجم عن العبث الغربي بمركّبات التاريخ وعناصره.. ويصح كثيرا وصف تموجاته وتقلباته بصفات التقلبات الفيزيائية الاجتماعية لتعقيدها وتداخل الزمن مع المادة والعناصر الاجتماعية.. وتوصيف الأزمة السورية كما يردده بعض الأكاديميين هو لقاء من أخطر لقاءات الحياة الذي يتم هذه الأيام في سورية.. “إنه رحلة قادمة من الماضي لا تصطدم بالحاضر بل تصطدم بالمستقبل كله”.. التيارات الإسلامية في المنطقة مهما تحذلق المتحذلقون في فلسفة نشأتها وتحركها وتطورها فإنها رحلة قادمة من الماضي تريد السطو على الحاضر ونجحت في عدة مناطق من الشرق بسبب تلاعب غربي في فيزياء المجتمعات الشرقية وكيميائيتها التاريخية وتضاريس عناصرها السكانية.. لكنها في سورية وجدت نفسها وجها لوجه مع المستقبل..
وربما كانت هناك رحلات سابقة من الماضي نجحت لكنها نجحت لأنها وصلت دون لأن تصطدم بالمستقبل مثل الحركة الصهيونية نفسها فهي حركة قادمة من الماضي لكنها وصلت إلى منطقة ليس فيها حضور للمستقبل ليواجهها فنجحت مرحليا في هزيمة حاضر ضعيف..
ومن هذه الرحلات القادمة من الماضي الحركات القومية على اختلافها وكذلك الثورة الإسلامية الإيرانية.. فهذه التحركات كانت عفوية ذات جذر تاريخي.. ولم تكن صناعية.. ولم يتم تعريضها لحرارة صناعية في معامل الجزيرة ولا إيقاد برك النفط تحتها لتحرض التفاعلات والتغيرات كما نيران الربيع العربي.. كما أنها تحركات اجتماعية ماضوية تجنبت خوض أي صراع مع المستقبل فاستمرت.. والأهم أنها انطلقت من المحطات الرئيسية للماضي وليس من محطات عابرة كما هي الحركات الإسلامية الحالية التي انطلقت من محطات فرعية مضطربة للإسلام والتي اختلطت فيها الجاهلية بالإسلام وهي محطات عصر الانحطاط.. فمرجعيتها عنيفة للغاية ورسولها المعتمد الرئيسي هو محطة فرعية بعيدة نائية هو محمد بن عبد الوهاب وتفسيرات وقراءات شيخ الإسلام ابن تيمية بكل إشكالياته الفكرية والفقهية والشخصية.. بينما بقي اسم الرسول الكريم المحطة الأولى للإسلام مجرد رمز فخري لها دون أثر يذكر..
في سورية وقع الصدام الكبير بين زوار من الماضي وزوار من المستقبل.. فهناك زائر غير متوقع من المستقبل هو جيل الرئيس بشار الأسد الذي وللصدفة التاريخية وصل إلى الحاضر قبل وصول الرحلة القادمة من الماضي.. وقد أوقف هذا الجيل الرحلة القادمة من الماضي ووضع المكابح على عجلاتها.. فالماضي قد يحارب الحاضر ويهزمه ويمنع المستقبل من الوصول بل قد يستولي على المستقبل.. لكن عندما يخوض المستقبل معركته مع الماضي مباشرة فليس على رحلة الماضي إلا أن تكف عن السعي للسطو على الحاضر والعودة من حيث أتت.. فواقع الحال أن الرحلة القادمة من الماضي قد طحنها هذا المستقبل وأثخنها بالجراح.. ومن كان المستقبل حليفه فلا غالب له..
واليوم سأقدم لكم مقالة مكتوبة بالفولاذ.. وسأقول إن قلبي بالذات في هذه المقالة صلب كالفولاذ.. بل إن الفولاذ معدن لين بالقياس إلى صلابة قلبي.. لأن قلبي لم يكن صلبا كما اليوم بعد أن تناهى إلى سمعي كلام الصلابة الذي يتحدث به الحلف السوري الإيراني الروسي.. ولذلك فإنني سأضرب بكل ما أوتيت من قوة على بعض التماثيل الجصية.. وسأطرد لاعبي الخفة والسحرة من المسرح الذين يلعبون مع فيزياء التاريخ.. أولئك الذين يأتون من الأمم المتحدة مخفورين بالثرثارين من الإعلاميين ويتلاعبون بالكلام والأهواء.. كما يتلاعب الحواة والسحرة بالأشياء..
السياسة والإعلام هما المجال الأكبر في الحياة لممارسة ألعاب الخفة وبهلوانيات المواقف.. والقسم الأكبر من السياسيين على الدوام يقف على مسرح السياسة ليمارس ألعاب الخفة ويحيط به مجموعة من المساعدين الإعلاميين ووسائل التضليل.. وما إن ينتهي العرض حتى ينفض الناس.. ويدخل هؤلاء السياسيون المشعوذون صفحات التاريخ ليجلسوا حفاة مشردين على السطور كما تجلس الفاصلة والنقطة وإشارة الاستفهام والتعجب.. دون أن يكونوا حرفا في كلمة.. أو نقطة على حرف تمنحه معنى مغايرا.. ولاشيء آخر..
ولكن السياسة الأخلاقية والوطنية الكبرى هي النقيض تماما لمفهوم سياسة ألعاب الخفة.. والسياسي الذي ينأى بنفسه عن الشعوذة السياسية ويلتزم صناعة العروض الحقيقية الباهرة هو الذي يتقدم من كتب التاريخ ويفتح أبوابها الذهبية ليدخل إلى صفحاتها ويستقر في “فصل الأبطال” ليزرع بساتين الحروف القوية.. ويجلس على عرش الكلام تحرسه الكلمات وتمجده العبارات وتنحني له الجمل الفخمة.. أما النقاط الكثيرة والفواصل وإشارات الاستفهام الشاردة على سطور التاريخ فتلمع له أحذيته وتنظف له بيته.. وتقف كالحجّاب على الباب.. وكإشارات المرور على مفارق الكلام وزواياه لتنظيم سير المعاني.. وعربات اللغة..
والأزمة السورية مليئة بالنقاط والفواصل الصغيرة المارقة بين السطور والضئيلة القوام والهيبة أمام قامات وهامات الحروف الكبيرة وتسمى هذه النقاط والفواصل “معارضة”.. نقط وفواصل شكلتها رؤوس الائتلاف الوطني وقبله المجلس الوطني السوري الراحل.. فقد أمطرت السماء نقاطا على صفحات التاريخ السوري.. ومن يقرأ هذه الصفحات لا يفهم شيئا سوى أنها طلاسم تائهة ليس فيها حروف وجمل وعبارات.. أما الحروف والعبارات الطويلة الفولاذية فتكتبها شخصيات وطنية كبرى.. غياب الفواصل والنقاط الضالة على السطور لا يغير منسوب الكلام وانسياب اللغة ومعنى اللفظ وإن تصادمت الكلمات وسمعنا ضجيج وزعيق فراملها على السطور.. لكن ما معنى الصفحات المليئة بالنقاط الضالة وعلامات التعجب من دون حروف وكلمات ؟؟ إنها قاع نهر جاف.. فإذا كان الكلام ماء فإن الفواصل هي الحجارة.. ونهر الكلام على السطور لا يعني شيئا إن جف ماؤه وبقيت الحجارة المصقولة..
*******
لن تجدوا كلاما فيه ألعاب الخفة على أصولها والشعوذة الكلامية والتلاعب بفيزياء التاريخ كما هو الكلام عن سورية والربيع العربي.. كل ما قيل أو يقال أو سيقال عن الأزمة السورية هو ألعاب خفة وبهلوانيات اللغات فقد تم اللعب كثيرا بعبارات سقوط النظام وما بعد الأسد.. والأيام الأخيرة.. والساعات الأخيرة.. وساعة الصفر.. والانقلاب الروسي.. والدخول الأطلسي.. وهروب الرئيس.. كان الناس يحبسون أنفاسهم في كل مرة تقدم فيها بهلوانيات السياسة من مبادرة المراقبين العرب إلى كوفي عنان إلى الأخضر الإبراهيمي..
اليوم يأتي عرض الأخضر الإبراهيمي ومصطلحات اللغة وألعاب الخفة في التصريحات التي تتلاعب بمفاصل الكلام الذي يبدو مثل الوجوه المشدودة والأثداء المحشوة بالسيليكون.. ولكن نصيحتي دوما هي أن الكلام المعلن هذه الأيام هو للتغطية على ما لا يقال.. ومالا يقال هو الفولاذ بعينه.. وفولاذ الكلام الذي نمسكه بالأصابع ونحس متانته هو أن لا مفاوضات بعد اليوم على دور الرئيس الأسد ومكانه لأن هذا الأمر قد سقط كليا من كل الحسابات الدولية في الكواليس وترك ليجتره روميو وجولييت الثورة (معاذ وجورج صبرة) وبعض الأغرار في السياسة.. ولا يحق لأحد أن يقرر عن الشعب السوري هذا القرار السيادي الأهم على الإطلاق.. لأن الرئيس صار هو رمز كل هذه المعركة.. فالقضية لم تكن شخص الرئيس بقدر ما كانت مبدأ إسقاط الرئيس بإرادة خارجية وتهديد المستقبل السياسي للاستقلال الوطني السوري في العقود القادمة.. فأول إسقاط للرئيس السوري بالطبع لن يكون الأخير لأنه سيفتح الباب أمام كل قوة إقليمية وخارجية لتمارس هذا الأسلوب في الضغط على السلطة السورية أياً كان الرئيس.. ولأن من يقبل أن يتغير رأسه بقرار مزاجي من الخارج فإنه لا يملك سلطة على أي مكان من جسده وسيتم العبث بكل جسده ولن يملك قرار الاعتراض على انتهاك عرضه وشرفه.. وهذا الإقرار الدولي والتفاهم خلف الكواليس هو أول طعنة يتلقاها التحالف العربي الغربي والمعارضة السورية.. وليتذكر الجميع منذ الساعة: مقام الرئاسة السورية مقدس من المقدسات الوطنية السورية.. ولا يحق لقوة على الأرض أن تومئ بإشارة إليه بعد اليوم إلا الشعب السوري.. هذه العبارة قطعة فولاذية..لا تنثني ولا تنحني.. ولا تتغير ولا تتحول..
ومن فولاذ الكلام الذي يغطيه الإبراهيمي هو عبارة “صلاحيات كاملة لحكومة انتقالية”.. يرددها صاحبنا كما ردد أرخميدس عبارة وجدتها في السوق.. ويكاد الإبراهيمي يركض في أسواق السياسة عاريا وهو يردد (وجدتها).. عبارة ينتشي بها المنتشون وهي تعني في وجهها الوقح أن الصلاحيات الكاملة التي ستمنح لحكومة انتقالية ستنتقل بشكل أوتوماتيكي إلى حلفاء الثورجيين أي إلى أردوغان وحمد والسعوديين وفي النهاية إلى الغرب وإسرائيل.. ولكن العرب كالعادة مولعون بالعبارات الناقصة والغامضة وبالعبارات التي تساق كالبهائم وتحمل على ظهورها أكياسا يظنها المارة أكياس قمح ودقيق وسكر.. ولكن مافيها هو التراب بعينه والرمل.. ولأن الإبراهيمي يبيع التراب والرمال في أكياس مغلقة حملها على ظهره من الأمم المتحدة فإنه لن يجرؤ على ذكر الحقيقة للزبائن.. والحقيقة هي أنه لا يجرؤ على مصارحة الناس الذين ينتظرونه في المعارضة السورية بأن هذه العبارة ذاتها لا تعني أي شيء..
عبارة “حكومة كاملة الصلاحيات”.. عبارة فيها طرب ومليئة بالأمل لمن يعتقد أنه سيعبث بالدهاء الدبلوماسي السوري.. لأن العبارة ناقصة وتحتاج تفسيرا.. فعن أية صلاحيات يتحدث الإبراهيمي.. والتي ستكون كاملة؟؟ صلاحيات سياسية؟؟.. قضائية؟؟.. تشريعية؟؟.. تنفيذية؟؟ خدمية؟؟.. استسلامية؟؟.. بل يمكن وضع بضعة ملايين من الاحتمالات بعد عبارة كاملة الصلاحيات..المعارضون يا شباب يشترون أكياس التراب وتبيعهم الدول بضاعة بلا قيمة لها..
فكلنا نذكر قافلة كلمات القرار 242 الشهير والذي اختلف فيه الفقهاء على (الـ) التعريف.. فضاع القرار بين “أراض محتلة” تنسحب منها إسرائيل.. وبين “الأراضي المحتلة” التي تنسحب منها إسرائيل.. وفي لبنان اختلف المتقاتلون يوما بين كلمتي “المرافئ” و”المرافق”.. لأن الفقهاء حاروا إن كان اتفاق المرافق يشمل المرافئ.. وفي اتفاق أوسلو وردت عبارة “السماح بطرق التفافية للمستوطنات” ولم يجد فيها الراحل عرفات غضاضة.. لكنه عندما وصل إلى الضفة فوجئ أن عرض الطريق الالتفافي هو 200 متر ويقضم الأراضي كما تقضم جرادة ورقة عنب.. وفي اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل اتفق الطرفان على “تزويد إسرائيل للأردن بالمياه”.. وبعدها نقطة كبيرة على السطر.. وعند التنفيذ قدم الإسرائيليون مياه المجاري للأردنيين لأن المفاوضين الأردنيين السذج لم يطلبوا توصيف نوع المياه المستجرة.. هل هي مياه عذبة أم مالحة.. مياه مستنقعات أم بحيرات أم برك أو نهر الأردن.. فأكملتها إسرائيل بتنفيذ تفسيرها على الأرض “تزويد إسرائيل للأردن بمياه المجارير”.. ولم يستطع قانوني في الدنيا الاعتراض على المجارير.. التي ستصل إلى حلق محمد مرسي والإخوان المسلمين في مصر قريبا.. وإلى بلعوم خالد مشعل ومعدة حماس..قريبا عبر الاتفاقات السرية..
ومما لا يريد الإبراهيمي كشفه بمرارة هو مايتم ترديده اليوم وهو أن الإخوان المسلمين قد تم إخراجهم من المعادلة السورية للحل وقد تم جمع أوراقهم عن الطاولة السورية لأن القرار الوطني السوري النهائي هو أن هذه المجموعة لم تعد تنتمي إلى معادلة الوطن.. وهي جزء من حركة ليست فيها برامج سورية أصيلة بل برامج للآخرين.. وأنها مجموعة تريد السفر بالبلاد ليس إلى الماضي التليد بل إلى تركيا.. والماضي العثماني الكريه..
ولعل أجمل قطعة فولاذ تتلمسها الأيدي هي أن الجيش السوري لم تمس قدراته الإستراتيجية الكبيرة والتي جعلت معادلة الردع الإقليمي وحدها اللجام الذي لجم تركيا وإسرائيل معا.. وأن كل ما أشيع عن التأثير على قدراته ووحداته الإستراتيجية تبين أنه أضغاث أحلام.. وهذه الوحدات في أفضل حالاتها التعبوية والجاهزية.. هذه العبارة قطعة فولاذية..لا تنثني ولا تنحني.. ولا تتغير ولا تتحول..
أما ما يحدث وما هي الحكاية فذلك فولاذ آخر وصلت إليه أيادينا وتلمسه أصابعنا.. وهي أن هناك ترويجا لمقولة (استحالة الحسم المسلح لكلا الطرفين..) وهي قد تكون بداية الاتفاق..أو بداية الانسحاب.. وهي رأس الجنين المنتظر العالق في رحم الإبراهيمي.. فهذه العبارة بحسب بعض عتاة السياسة ليست من اختراع السوريين لأنها مجتزأة من عبارة أهم ولم تكمل أثناء ترويجها وربما فتح لها “البعض” الأبواب الرسمية مواربة عمدا لغاية إغواء المعارضة.. بل المفاجأة أنها قد تكون من اختراع وترويج القوى الداعمة للمعارضة المسماة مجازا (أصدقاء الشعب السوري) التي أعادت تصنيعها من تصريحات سورية خارج معناها.. وكانت الغاية منها إعطاء بعض الشعور لمؤيدي المعارضة المسلحين في الداخل أنهم حققوا إنجازا.. وبالذات بعض قطاعات الجيش الحر التي عبرت عن رغبتها سرا في التخلي عن السلاح بعد إدراك القيادات الميدانية لصعوبة الظروف العسكرية وعدم القدرة على تحقيق انجاز باستثناء انجاز حصد كراهية السوريين وتدمير ممتلكاتهم وحصد الموت لمقاتلي الحر بشكل لم يكن مطاقا..
فبعض الكتائب المسلحة تعرضت لما وصفته مراسلات تم القبض عليها “ضغط هائل فوق حدود طاقة التحمل البشري”.. وهي صارت مدركة أنها قدمت كل ما تقدر عليه ولكن الظروف لم تعد في صالحها بعد سنتين.. والغاية من طرح هذا المفهوم (أي لا حسم لأي طرف) المقترح هو أول عملية تراجع عن المشروع التغييري الكبير في سورية..لأن ترويج انجاز المعارضة باستحالة سحقها يعتبر انجازا لها ولكنه تجهيز لها للاعتراف أنها لا تقدر على الحسم أيضا.. وعليها بدء رحلة الانكسار التدريجي بنصف انتصار معنوي نفسي..
هناك تقديرات غربية على الأرض تدرس وتراقب مزاج هذه المجموعات وحواضنها ترى أن التوقيت صار مناسبا للتخلي عنها لأن النظام يقوم بتذويبها بالقوة الناعمة وبتنمية قوى الرفض الذاتي لدى جمهور المعارضة التي ضاقت ذرعا بالمسلحين وسلوكهم المنحط اللصوصي.. فكل ما تريد هذه الفصائل والمجموعات والحواضن هو عدم شعورها بالهزيمة.. وأنها حققت بعض الاعتراف بها وبأنها لا يجب تهميشها في المستقبل..
علاوة على ذلك سيخفف هذا الترويج من ضغط المؤيدين للدولة الذين يطالبون بإطلاق يد الجيش السوري بعنف غير مسبوق للإجهاز على هذه البؤر.. وإنقاذ هذه البؤر قد يترك مجالا للمفاوض الغربي بحجة أن له وجودا على الأرض السورية عبر بؤر غير محطمة..
مشكلة القيادة السورية هي أن الحسم بعنف غير مسبوق لن يكون خيارا على الإطلاق لأسباب أخلاقية أولا لأن بعض الحواضن المدنية للمعارضة وللمقاتلين الإسلاميين في بعض الأرياف ستدفع ثمنا عسكريا مريعا سيكون وصمة عار في جبين الدولة وسيشكل بذور تمرد قادم مهما طال الزمن.. فالحسم غير المسبوق سيتلوه انفجار غير مسبوق ولو بعد عقود لأن الذاكرة الشعبية قوية للغاية وستشتعل كلما تم الرش عليها بالبارود من الخارج.. والدرس الكبير للأزمة السورية هو أن معادلة التدخل الخارجي حدثت لأن شعور بعض القطاعات المتدينة أنها هزمت وسحقت في الثمانينات تركها جاهزة للاشتعال بل وقبول فتاوى التدخل الخارجي لمنع تكرار الهزيمة الساحقة.. والقرار السوري السياسي هو أن حل مشكلة حالية بدفنها مع الديناميت يعني أنها ستتفجر دوما.. ولذلك تقرر نزع الصواعق ودفن الأزمات من غير ديناميت وحل كل سلة الأزمات حلا كاملا.. وعدم قبول النوم على الديناميت الاجتماعي..
تأخير الحل والحد من العنف المفرط ليسا بسبب ترهل الدولة أو ضعف الجيش.. بل إن الدولة الوطنية قررت أن القسوة المفرطة ستفجر المجتمع السوري مع الزمن ولن يتردد الآخرون من البحث عن الديناميت المدفون لتفجيره.. إنها أكبر هدية لمستقبل التدخل الخارجي المتواصل في أزمات متلاحقة.. كما أن العنف المفرط الموجه للمعارضة سيتحول في المنطقة إلى مشاعر دينية وطائفية تبتلع المجتمعات الشرقية عموما بلا رحمة.. ويلاحظ المراقب أن عملية استئصال المقاتلين المسلحين تتم من بيت إلى بيت وعبر سلّهم من المناطق كما تسل الشعرة من العجين.. فتعود إليها مجموعات أخرى مستفيدة من قرار الدولة عدم تدمير المنطقة الموبوءة بالإرهاب كليا..
وإلى جانب ألحان أغنية الإبراهيمي التي كتبتها له ولحنتها مجموعات غربية وعربية تسمع ألحان وتقاطيع موسيقية أخرى.. فكثيرون يشيرون إلى أن الدولة تفكر ببيع عقاراتها في لواء اسكندرون وشواطئ طبرية.. ولكن الكلام الفولاذي اليقين هو أن هذه ليست عقارات للبيع ولا قطع غيار.. بل هي قطع من جسد سورية.. وقطع من القلب.. يموت الجسد ولا يبيع نفسه قطعا.. ومالم يستطع الغرب أخذه بالقوة لن يأخذه بلعبة (الفيزياء الاجتماعية).. أو بتسيير رحلات الماضي إلى الحاضر.. إنه كلام الفولاذ.. الذي لا ينحني ولا ينثني.. وبقية الكلام قصدير وخشب..
******
لاعبو الخفة وغشاشو الكلام إذاً يلعبون لعبتهم التي نجحت في ربيع العرب.. ويستطيع المتابع الذي يملك عقلا وطنيا خالصا وحسا مرهفا بالعدالة أن يعرف أن المجموعة التي قدمت عروضها على المسرح ضمن فرقة “الربيع العربي” كانت من أشد الفرق تألقا في ألعاب الخفة السياسية الدولية.. لكن العرض تعرض لفضيحة في الفقرة السورية منه بالذات.. حيث حاول الفريق السياسي والإعلامي المشعوذ أن يلعب اللعبة لكن الجمهور السوري ضربه بالبيض والبندورة… ثم بالأحذية.. والحذاء الذي أوجع وجع الربيع وورّمه.. وأدماه وأشقاه.. هو.. حذاء الجيش العربي السوري..
من الألعاب التي عرضتها فرقة الربيع العربي على الجمهور العربي المسكين المدهوش والذي حبس أنفاسه هي عرض الحرية والكرامة والتي لعبها مجموعة ملوك النفط والغاز.. فكان الجمهور يرى عرض الحرية من فرقة قطر والسعودية وكان العرض الأول للفيزياء الاجتماعية هو (الشعب يريد) التي أظهرت محمد بوعزيزي يحرق نفسه ثم تتحول كتلة ناره إلى ثورة ليخرج من بين ألسنة اللهب الأبله المرزوقي ويطير من وسط النار راشد الغنوشي فيصفق الجمهور طويلا.. ولكن من يراقب المشهد من الذين يفككون ألعاب الخفة يتساءل عن سبب وجود الجزيرة منذ أول المشاهد وانضمام العربية وصحف أورشليم العربية والعبرية لصنع المشهد الساحر.. والأهم تساؤل عن سبب وجود الغنوشي في ايباك.. وغياب العداء لإسرائيل عن برنامج “تونس الثورة”.. وهنا كمنت لعبة الخفة.. ثورة من غير عداء لإسرائيل.. هي عروض للشعوذة
في العرض الليبي كانت اللعبة مروعة حيث قدم الناتو بنفسه عرض “تحرير ليبيا” بقافلة رحلت من الماضي ووصلت إلى خيمة الزعيم القذافي.. وظهر الساحر الأوروبي وهو يذبح القذافي بالسكين الإسلامية ليسيل من عنقه صيصان وأفاع صغيرة تتلوى دخلت علبة سماها الساحر صندوق انتخاب.. ثم أخرجها الساحر أفاعي تسعى وديكة تصيح في سورية..
فرقة الربيع قدمت عرض الديمقراطية للشيخ حمد بن خليفة وعرض فيها لعبة صندوق الانتخابات التي برع فيها الإخوان المسلمون في مصر.. انتخابات مكتوبة بالرز والسكر والتصويت فيها بالفتاوى وبعباءات الصحابة والتابعين.. ولم يبق صحابي إلا وشارك في الانتخابات ونزلت كل الأحاديث النبوية الصحيحة وغير الصحيحة وشاركت في الانتخابات.. وتحولت كتب الحديث وآيات القرآن إلى بيانات انتخابية.. وهبطت ملائكة الجنة وحراس جهنم إلى منصات التحرير وتسربت بعدها إلى صناديق الاقتراع.. فخرج حارس الجحيم.. محمد مرسي ليحكم مصر.. وأول وسائل الجحيم كان الدستور الاخواني..الفيزياء الاجتماعية والتاريخية فعلت فعلها في مصر لأن المستقبل وصل متأخرا.. بعد وصول حراس الجحيم من الإخوان المسلمين..
ولذلك فإن منازلة بين مستقبل الشرق وماضيه قد وقعت.. وبدأ غبار المعركة ينجلي.. لحقت هزيمة كبرى بالزوار القادمين من الماضي على الأرض السورية من بعد فتوحاتهم في شمال إفريقيا ربما لأن اتجاه الفتوحات كان بحركة معاكسة لاتجاه حركة التاريخ حيث اتجه الإسلام من آسيا إلى إفريقيا وليس العكس.. زوار المستقبل دحروا زوار الماضي في اليوم الأخير لمعركة الربيع العربي في الميدان السوري وعلى مسرح الدهشة والخفة والشعوذة.. وهي المعركة الأخيرة للماضي في الشرق.. وما يخشاه الإسلاميون أن كل الرحلات القادمة من الماضي والتي ترجلت في الشرق ستلحق بالرحلة التي يتم ترحيلها عن الأرض السورية..
رحلات الزمن الآن ستتوجه بركابها الإسلاميين المهزومين في سورية لتعيدهم نحو الماضي.. وما على الشباب القادم في جيل العرب من المستقبل إلا أن يدفع تلك العربات القادمة من الماضي بمن فيها نحو هاوية الماضي السحيقة.. كي يعيش بيننا المستقبل وينجب أبناءه بأمان.. بل كي يبقى الماضي التليد العظيم سليما قبل أن تصل إليه رحلات الزوار الجوالين بجلابيبهم وسكاكينهم وجهلهم وجهالتهم وتغزوه بحجة أنها تزوره من المستقبل.. وتقيم في فجر الإسلام وتحيل يثرب والمدينة إلى بابا عمرو.. وتنشئ إمارة إسلامية طالبانية ووهابية.. لا تعترف بالمهاجرين والأنصار.. حيث فيزياء التاريخ تتحول إلى فيزياء الجحيم..
نارام سرجون