في عيد الميلاد هذا العام شجرة الميلاد لن تضيء سماء أحياء دمشق كما كانت فيما مضى . يمر العيد على سورية دون أي مظاهر فرح وبهجة تزين شوارع المدينة ، وسيكتفي السوريون بإضاءة شمعة سلام ومحبة آملين بفرج قريب يعيد لهذه المدينة الساحرة ألقها وبهاءها .
لا ترى في شوارع المدينة إعلانات أفراح الميلاد ورأس السنة ، فالمطاعم التي درجت على الاحتفاء بهاتين المناسبتين من خلال برامج فنية يشارك فيها فرق موسيقية وفنانون تخلت عن هذا الطقس احتراماً لمعاناة السوريين جميعاً .
حتى من اعتاد التردد على المطاعم لقضاء المناسبة قرروا هذا العام على ما يبدو الاعتكاف في منازلهم ومقاسمة الوطن الصبر ، متضامنين مع إخوة لهم في الوطن هُجِّروا من منازلهم أو فقدوا أحبة شاركوهم أفراح الأعياد الماضية .
حزينة شوارع دمشق ، لكنها تنبض بالحياة ، ترفض الاستسلام لظروف قاسية أرخت بظلالها على مدينة تختزل التاريخ في زواياها وحاراتها .. ففي دمشق القديمة للعيد معنًى آخر سيقتصر يوم الميلاد على لمة للأهل حول مائدة يتجاذبون فيها أحاديث لا يغيب عنها الهم الذي يؤرِّق الجميع .. وستكون الأماني هذه المرة كبيرة على قدر المصاب .
“سيريان تلغراف” تجولت في شوارع دمشق القديمة وحاولت رصد نبض الناس وانطباعهم عن الأعياد هذه السنة والتقت عدد من رواد المطاعم وكانت الآراء التالية :
نوارة يعقوب 33 سنة تؤكد أن معاني العيد لا تختزلها الطقوس وإنما هي في النفوس، فالقلوب المليئة بالمحبة ترى نور شجرة الميلاد حتى وإن غابت عن شوارع المدينة وبيوتاتها.. نحن في أمس الحاجة اليوم إلى التفكر في معاني العيد دون تكلِّفٍ أو بهرجة، فالسوريون يعانون اليوم من أزمة لن يكون الخلاص منها إلا باجتماعهم على قلب واحد مترفعين عن خلافات واختلافات يمكن لها أن تصيب نسيج مجتمعٍ عايشوه وعاشوا عليه.. والسوريون كلهم إخوة لم ولن يفرقهم أحد.. والدليل يتجلى في الإحساس الذي يتقاسمه السوريون بمصاب الوطن.
فادي سعادة، طالب جامعة، يقول إن غياب مظاهر العيد هذا العام لن يؤثر على قيمه ومعانيه ولكن وجودها كان يمكن أن يعزز الاطمئنان وينثر الأمل، فالكآبة لا يمكن أن تسكن دمشق.. كان من الممكن أن تنار أشجار الميلاد إيذاناً بميلاد فرجٍ قريب يعيد لسورية وأهلها ما فقدوه من الفرح والتفاؤل وخاصة الأطفال الذين تفتح وعيهم على أزمة لا دور لهم فيها ولا يستحقون حرمانهم من فرحهم كثمن لأخطاء الكبار، أنا شخصياً أضأت الشجرة في زاوية بيتي على أمل أن يضيء نورها درب الخلاص..
علي عمر حداد يقول: اعتاد السوريون جميعاً بكل طوائفهم وانتماءاتهم أن يتقاسموا معاني الميلاد، وفرحه لم يكن يوماً عيداً لطائفة دون أخرى كان الجميع يتبادل التهاني.. واليوم أيضاً يتقاسمون هذه المعاني وحتى إن غابت طقوسه عن شوارع المدينة.. هذه الأزمة التي تعصف بنا لن تثنينا عن الاحتفاء بـ “سوريتنا” كبلد جامع لكل المعاني والقيم التي جعلت من الإنسان قيمة هذا الوجود ودافع استمراريته..
أما أحمد سلمان فأوضح أنه لم يشعر يوماً بسوريته كما يشعر اليوم، هو وإخوته في الوطن يتقاسمون في يوم الميلاد مشاعر الحزن كما تقاسموا بقدومه مشاعر الفرح فيما مضى، يقول أحمد: شجرة الميلاد لجيع السوريين وأجراس الكنائس في الصلوات تقرع على مسامعهم جميعاً.. هذا الوطن يتسع لنا لأفراحنا وأحزاننا.. هو ليس ملك لأحد ولا يحق لأحد احتكار فرحه أو منعه عن الآخرين.. ويضيف أحمد: لئن غابت المظاهر هذا العام إلا أن الأماني والصلوات حضرت في القلوب، كل يتقرب في يوم واحد ووقت واحد إلى الله بطريقته يرجوه خلاص سورية وشعبها..
شهد صطوف طالبة مدرسة أكدت أن معاني الميلاد تتجلى في الالتفات إلى معاناة من أصابهم البلاء والتضامن معهم بتقديم ما يمكن أن يخفف من ألمهم ومصابهم وخاصة للأطفال الذين فقدوا أغلى ما يملكون.. من أمانٍ وإحساس بطفولتهم، يمكن لهذا العيد، برأي شهد، أن يكون بداية لطقوس جديدة في الاحتفال مع المحرومين والمهجَّرين.
على الرغم من الحزن الذي يتملك الشباب السوري بسبب ماآلت إليه أحوال البلاد إلا أن ذلك لم يقف في وجه طموحهم في الأمل والحياة والتفاؤل، ولم يضعف من عزيمتهم على الاستمرار.. إسراء بدرية طالبة جامعية أكدت أن فرح الأعياد في بلد كسورية لا يمكن أن ينطفئ أو يغيب، وترى إسراء أن هذه الأفراح ستستمر ولو بأبسط المظاهر وأكثرها إنسانية واحتراماً لمشاعر الآخرين، وأن الشباب السوري لن يفقد الأمل في الحياة، بل سنعمل على رسم الابتسامة على وجه كل سوري ولن نسمح للأزمة أن تطال فرحتنا وأعيادنا، فالعيد ليس بهجة وصخب بل هو التآلف والمحبة بين أبناء الوطن الواحد..
مها الشوا 23 عاماً، قالت إن مظاهر الاحتفال تتناقض مع الواقع المرير الذي يعيشه معظم أبناء الوطن، فمن لم يهجّر من منزله بسبب المجموعات المسلحة فقد عزيزاً عليه، وأعتقد أن في غياب مظاهر الاحتفال احترام لمشاعر هؤلاء إخوتنا في الوطن والإنسانية.. فأي معنى للعيد لو أدخلت شجرة الميلاد الفرح إلى قلوب المتجمهرين حولها فيما ينام آخرون في الحدائق ؟ إني لأرى في ذلك جرح لمشاعرهم وإحساسنا بآلام بعضنا البعض..
المطاعم أيضاً لن تحتفل
برنار علي،ـ مسؤول إداري في أحد مطاعم دمشق القديمة تحدث بأن الوضع العام غير مناسب لإقامة حفلات فنية، كما كانت عليه العادة في السنوات السابقة، خاصة أن تردد الناس على المطاعم في هذه الفترة لم يعد كسابق عهده، فكيف هو الحال في الأعياد.. وقال يخطئ من يظن أن المطاعم ليست جزءاً من هذا الوطن أو هي جهة ربحية لا تهتم لمشاعر الآخرين، بل على العكس تماماً نحن نتفاعل مع نبض الناس نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم.. هكذا اعتاد السوريون أن يتعايشوا حياةً واحدة..
فادي يازجي، من القسم الإداري لمطعم في دمشق القديمة، أكد أن يوم الميلاد سيتقتصر على حفلة غداء تبدأ في الثانية ظهراً، وذلك بعد أن اعتاد الناس الرجوع إلى منازلهم في وقت مبكر، مراعاةً للظروف الأمنية.. وأوضح يازجي أن حركة الناس في دمشق القديمة لم تتأثر كما توقع البعض بل على العكس تبين أن هذا الشعب هو أقوى من أن ينكسر أو يهزم، فإرادته في الحياة أقوى من أصوات التفجيرات وأكثر إصراراً من مريدي الخراب والعبثية.. وفي الوقت نفسه رأى يازجي أن شجرة العيد تحمل معاني السلام والأمان ووجودها يعطي الطمأنينية للناس لذا كانت معظم إدارات مطاعم دمشق القديمة من مؤيدي فكرة تزيين أشجار الميلاد، وإضاءة شموع علها تكون رجاءً صافياً بالخلاص..
نبيلة خليفة تعمل في إحدى مطاعم دمشق القديمة أكدت أنه ورغم وجود متفائلين ومقبلين على الحياة يرتادون المطعم بشكل شبه يومي إلا أن هذا لا يخفي أن البعض بات يتوجس خوفاً من التواجد في أماكن مزدحمة لأن من يستهدفون أمن السوريين أثبتوا في أعمالهم الإرهابية أنهم إنما يريدون بث الخوف وشل حركة الناس وذلك عبر ضرب المدنيين الآمنين.. وتمنت خليفة أن تقتصر مظاهر الاحتفال هذا العام على إضاءة الشموع والصلاة لراحة أرواح الشهداء والدعاء لعودة سورية بلداً آمناً لجميع أبنائها..
صلوات وطقوس دينية ..
المطران سابا إسبر قائم مقام بطريركي للكنيسة الأرثوذكسية أكد على أن أعياد الميلاد والمناسبات ستقتصر على الصلوات والطقوس الدينية فقط ومن خلالها سيتم توجيه المؤمنين للتركيز على البعد الروحي للعيد لأن الله أراد أن تشارك الناس بعضها البعض في الألم والمعاناة والفقر.
واعتبر المطران اسبر أن هذه المناسبة مهمة لجمع المؤمنين وتصفية قلوبهم ولم الشمل والإغتناء روحياً خاصة في هذه الظروف التي تمر بها البلاد ونحن نتوجه لكل الناس بالتهدئة والتآخي والابتعاد عن العنف وإعادة السلام إلى أرضنا الحبيبة فهي مسقط رأس الأنبياء والصالحين ، وبين المطران على أنه من الممكن المشاركة في فعاليات تقام للأطفال الصغار تقدم فيها الحلويات والألعاب وبعض الأناشيد والأغاني التي تثلج صدورهم حيث أن ماتمر به البلاد عصف بأطفالنا وآلمهم معنويا وجسدياً.
شباب قرروا كيف يحتفون
مجموعة من الشباب أخبروا “بلدنا” أنهم قرروا أن يحتفوا بالميلاد هذا العام على طريقتهم، وذلك بزيارة عدد من المياتم وتقديم هدايا لأطفالها.. يقول جورج: هذه فرصة لنعكس جوهر العيد ومعناه الحقيقي في فعل يسعد الآخرين ويخفف ألمهم.. لا أعتقد أن الشجرة والأجراس تختزل العيد وبالتالي غيابهما يعني غياب العيد بل إن الميلاد هو تجسيد لكل صور المحبة والإخاء وليس ثمة كالسوريين شعب يعرف كيف يجسد مفهوم المواطنة دون أي انتماء ديني أو مذهبي..
أما فادي ومازن وباسم ويارا فاختاروا مراكز الإيواء، ليقدموا للمقيمين فيها تهنئة من القلب، ويطلون على حياتهم في يوم يعيش فيه المرء لغيره لا لنفسه، كما يقول فادي، ويضيف إنه ولكثرة انشغال الناس فيما مضى بمظاهر العيد كدنا ننسى معانيه الحقيقية، واليوم هي فرصة لنقول لإخوتنا في الوطن لستم وحيدون في معاناتكم إننا معكم ونشعر بكم ونمد أيدينا لكم..
قد يبدو هذا الكلام ضرب من التنظير والتعالي على واقع تتجذر فيه الخلافات يوماً بعد يوم، ولكنه حقيقة نطق بها شباب سوري أراد لوطنه الخلاص، ولشعبه الاستقرار.. شباب مل التفكير عنه فيما يجب أن يقوم به، وكيف يقوم به، وبات ناضجاً ليقرر ما يريده وبأي طريقة يفضل أن يحتفي بالميلاد..
بابا نويل …
حزيناً، هذا العام يحمل هداياه إلى أطفال لا ذنب لهم فيما يقع من أعمال عنف في البلاد، سامح جبران الذي اعتاد أن يكون “بابا نويل” في أعياد الميلاد، يقول إنه لم يكن يوماً حزيناً كما هو اليوم، فيبنما يقوم بتوزيع الهدايا على أطفال يعيشون بأمان في منازلهم مع أسرهم ، ثمة أطفال فقدوا خلال الأزمة المعيل، أو لم يعد لديهم من يمسح دمعهم، أو أنهم هجروا مع أسرهم، وبات همهم مكان آمن ينامون فيه لا الحصول على هدية من “بابا نويل” متمنياً أن يجد هؤلاء من يلتفت إليهم ويخفف عنهم ويحمل إليهم في يوم البسمة ولو بسمة..
سيريان تلغراف | ريم فرج