بين شعاع الشمس وطلقة ، تعبر بنا السيارة على الطريق من مطار دمشق إلى ساحة أبو رمانة في قلب المدينة، أسبق الهجوم الموعود بليلة واحدة، لا أثر في المطار للحرب التي توشك نيرانها على الاقتراب منه.
منذ بدأت الأحداث (في أيار 2011) تتجه نحو العسكرة الشاملة كنت على اطلاع واف حول انتشار الخلايا المسلحة في القرى والبلدات التي تتموضع بيوتها وبساتينها على جانبي طريق المطار.
ثمة بيت قريب من طريق المطار كنت ألجأ إليه هرباً من ضجيج المدينة التي كانت لا تعرف السكون أو النوم، لألتقي فيه بعائلة تحب دمشق كما لم تحب مدينة أخرى، “حتيتة التركمان” هي القرية التي تسكنها تلك العائلة، وتقع في المنطقة المجاورة للمطاعم الشهيرة قرب طريق المطار. وفيها دار صيفية كنت أستأجرها دائما من صاحبها ، الذي كان من أهل المنطقة القلائل الذين لا يعارضون تأجير منازلهم لأحد دون أن يشترطوا عليه عدم تدخين النارجيلة في حديقة المنزل، ولم يكن الأمر متعلقاً بالحفاظ على صحتي، بل بمعتقداتهم الوهابية: فالتدخين حرام والنارجيلة إثم كبير ورجس من عمل الشيطان (فاجتنبوه).
ظهر لي بوضوح، بعد الاحتكاك والتعامل مع أصحاب المحلات أو المزارعين في حتيتة التركمان منذ العام 2007 (كما في شبعا أو عقربا او ببيلا والحجيرة والخ)، وبعد التردد على مساجد تلك القرى وزيارة أهلها ممن يدفعك الاضطرار إلى التعرف بهم، ظهر لي أن الشخصية الأكثر شعبية منذ فترة ما بعد الغزو الأميركي للعراق وحتى الآن، و( بين فئة واسعة من المتدينين) هو” الزرقاوي ” ، ناهيك عن ان الخطاب المذهبي الفاقع الذي كانت تبثه وسائل اعلام لبنانية وعراقية وسعودية كان يلقى التعاطف الشديد من قبل السكان وإن بصمت ودون خروج اي تعبير عملي عن مفاعليه في النفوس . حرب اعلامية مذهبية خاضتها ادوات الاعلام السعودي بفروعها اللبنانية والخليجية والعراقية وهدفها نشر الطائفية واستثارة احقادها في المنطقة ككل ، على مدار سنوات ، والاعلام السوري شبه غائب وإن حضر فللترويج لخطاب اعلام يجب الطائفية ولكنه لا يعالج نفوس المصابين بلوثة احقادها التاريخية التي كان يخرجها الاعلام وينميها رجال دين واشباه رجال دين منتشرون في كل زاوية ليس ليس للدولة فيها عيون .
تروي لي إحدى الصديقات، وتدعى “هدى”، أن اشقائها ووالدها، وهم من سكان مدينة اللاذقية الساحلية تحولوا إلى وهابيين عن قناعة بسبب استماعهم اليوم الى القنوات التحريضية، ثم ما لبثوا أن أصبحوا تكفيريين طائفيين نتيجة متابعتهم لقنوات إعلامية مذهبية عراقية، عملت للتسويق لما اسمته “حرب يشنها الشيعة على السنة” في ذاك البلد ما بين 2005 – 2008م، المفارقة ان قناة الزوراء التي كان صاحبها مقيماً في دمشق، فاقت غيرها في بث السموم الطائفية التي حولت سورية من بلد يمتاز شعبه، بكافة طوائفه، بالاعتدال الديني، إلى حاضنة لا تتقبل أكثر أنواع التكفير تطرفا فحسب، بل تتبناه أيضاً وتروج له.
كان لأحد أصدقائي المهندسين في حتيتة التركمان منزل وعائلة وأصدقاء، وكنا كثيراً ما نتزاور فيريني بأم عيني كيف أصبحت مظاهر الوهابية المنتشرة في تلك القرية شديدة الوضوح وبادية للعيان، بدءاً من أشقائه وشقيقاته وليس انتهاء بالجيران والأقارب. أما المصدر الممول لهذا التطرف فكان شخصاً خليجياً اتخذ من مسجد (مصلى) غير معلن مقراً له، خاصة أنه كان دائم التردد على القرية وقد استأجر فيها فيللا تقيم فيها عائلات يرتدي معظم أفرادها النقاب.
أين الأمن في ذلك الزمن السوري الممسوك؟
كان من المفترض وقتها أن يقوم أي مؤجر بالتبليغ عن هوية المستأجرين لديه لأقرب فرع أمني، ولكن الواقع كان يجري على غير ذلك، إذ كان فساد المندوبين الامنيين في احيان كثيرة كفيلاً بالتعمية على كثير من النشاطات التنظيمية التي كانت حركات تتخذ من فكر القاعدة مثالا اعلى لايمانها تصول وتجول في مزارع تلك المنطقة لاسباب لا علاقة لها دائما بالعمل العسكري في العراق بل بالعمل التحضير لما يجري اليوم في سورية.
ولقد استفاد السكان المحليون هناك بشكل كبير من المطاعم والملاهي والمزارع التي نشأت كالفطر في أحضانها، ثم ما لبث الآلاف من سكانها أن تحولوا من ملاك بسطاء لأراض في قرى شبعا والغزلانية وعقربا الخ إلى أصحاب ثروات عقارية طائلة. ومع هذا لم يتوقف أهل تلك المنطقة على اختلاف قراهم عن تلقي الهدايا القادمة من الخليج، إما مباشرة أو بواسطة المغتربين من ذويهم وأقرانهم. وربما كان من بين هذه الهدايا تلك المساجد – المصليات التي يبنيها مجهولون من أموال المتبرعين، وسرعان ما تصبح مراكز سرية لتدريس “الفكر” الوهابي، هذا طبعاً إن صح وصفه بالفكر. لكن الأمر لم ينتهي عند مساجدهم الغير معلنة ، فحتى المدارس الشرعية التابعة لوزارة الأوقاف قام الوهابيون باختراقها وعمدوا إلى تعميم أفكارهم ومعتقداتهم على مرتاديها، خاصة وأن كثيراً من أبناء تلك القرى لا يحبون العلم الأكاديمي (العلماني في رأيهم) ولا يقدرون على فهمه أو تمثله، فيفضلون العلوم الشرعية عليه،ولكن أغلب شرعهم كان وهابي الطابع.
لم تكن بعض القرى في المنطقة تضم الكثير من الوهابيين وحسب، بل ان اغلب تلك القرى يسكن من ابنائها مهاجرون عادوا من الخليج بتشدد وهابي واضح وأخرون منهم تحمسوا للقتال في العراق بتشجيع من الدولة فلما عادوا لم يأت معهم سوى الحقد الطائفي واثار الدماء التي سفكوها لا من المحتلين بل دماء العراقيين المختلفين مذهبيا.
حيث وجد المجاهدون السابقون في العراق فرضوا هيبتهم وخوفوا الناس والامنيين منهم، وكأنما كان لبعض القرى الاخرى في الخط البياني للغوطة الجنوبية والشرقية وبين الانتماء إلى الوهابية الجهادية عقد مكتوب على جباه نسبة كبيرة منهم. وكان لأغلب اصدقاء من العراقيين يسكنون في الحجيرة والسيدة زينب وعقربا، ومثلهم من النازحين من الجولان في حي الحجر الاسود، والذين كانوا جميعهم عماد نار الحراك المسلح خلال الأحداث. كما لعب الانتماء العشائري دوره في تجنيد الاغلبية، ليأتي التهميش والفقر والغضب الكامن في النفوس المشحونة طائفياً، فيخرج ما في جوفها دفعة واحدة، ولتتلون تلك القرى والبلدات باللون الأسود الذي خص به تنظيم القاعدة نفسه.
لا أحد في تلك المنطقة يخجل من انتمائه إلى التيار الوهابي، وليس هذا فحسب، بل لقد كان المسلحون يفاخرون بما يفعلون في العراق ويعدونه امتداداً لجهاد “الشيخ أسامة بن لادن”.
بين هؤلاء الذين يسميهم الاعلام ” الحاضنة الشعبية للأرهاب” وجدت جبهة النصرة ملاذها.
ولدت جبهة النصرة من رحم القاعدة في العراق وتفرد بالبدء في تجنيد الكوادر لصالحها المدعو ابو محمد الجولاني وهو سورية من قيادات الدولة الاسلامية في العراق، وكان عمله على تجنيد الاتباع محصورا في بداية الربع الثاني من العام 2011 بين اتباع القاعدة العراقيين والسوريين الذين يملكون خلايا نائمة في سورية، ثم ما لبث أن نشأ خلاف بينه وبين قائد ما يسمى الدولة الاسلامية في العراق، أبو بكر البغدادي بسبب عدم حصول الجولاني على اذن البغدادي. اشكالية شرعية وتنظيمية لم تؤثر كثيرا على الجولاني الذي فرض خياره على الارض وانضم اليه اغلب الجهاديين المحترفين من ابناء دير الزور وقد اتخذ الرجل لنفسه مقرا للقيادة في القامشلي لبعدها عن تفكير الامن السوري .
وأبو محمد الجولاني، عاد فالتحق بالبغدادي وأعاد له البيعة بعد أن جاءه وسيط يطلبها منه مقابل منحه بركة التنظيم العراقي وتمويله ودعمه وكل ما يحتاجه من رجال على ان يصبح الجولاني نائب الأمير لولاية الشام، شريطة أن يستلم الوسيط (العراقي الجنسية) أمارة التنظيم. فكانت النتيجة ضم جماعات أبو محمد الجولاني مع خلايا تنظيم القاعدة في هيكل قيادي واحد، مع احتفاظ كل خلية بحرية حركتها الأمنية والعسكرية.
سيريان تلغراف | عربي برس