للتغير السياسي الجذري الذي حصل في نيسان العام 2003 استحقاقات على مستوى العمارة العراقية كما كان لهذا التغيير استحقاقاته في ميادين اخرى في الحياة الثقافية و العملية للمجتمع العراقي.
يؤشر هذا الموضوع الى ان العمارة العراقية واجهت العديد من المشكلات على المستوى العلمي والعملي في الفترة الممتدة من 1980 و لغاية العام 2003 وفي صدارة هذه المشكلات ان مسيرة الفكر و النظريات المعمارية في العراق توقفت او تصدعت تماماً مبتعدة عن مساراتها ومتطلباتها العلمية المحضة و بالتالي اضطرت الممارسة المعمارية تحت رزمة من التدخلات السياسية و الضغوط الاقتصادية الى التوجه الى اختيارات لا تعبر بأي حال من الاحوال عن عراقة و ابداع المعماريين العراقيين والحضارة العراقية عبر التاريخ.
بالتأكيد، سمح تدخل السلطة السياسية التي تؤمن بحكم الفرد الواحد بظهور نمط معماري جامد وهو عسكرة العمارة وشخصنتها ثم تطور الحال الى بروز عمارة الصنم التي خصصت معالمها و علاقاتها الشكلية لتمجيد حكم هذا الفرد وتعظيمه، فكانت الكثير من التصاميم المعمارية تجير بايقونة حرفي (ص) و (ح) اي صدام حسين ويكون الهدف الرئيسي لهذه التصاميم فكراً و تنفيذاً مكرساً و مسخراً لتوثيق فترة حكمه، كما ان اكثر من تسعين في المئة من الابنية المشيدة في الفترة نفسها كانت تعبر عن قسوة وشراسة وجبروت هذا الحكم الشمولي، فمثلاً جامع ام المعارك الذي سمي بعد التغيير بجامع ام القرى، صمم على فكرة الحرب التي خاضها النظام الدكتاتوري السابق مع المجتمع الدولي في العام 1991، كما ان المنارات الموجودة فيه مثلت شكل فوهة الرشاش الروسي الذي كان يستخدمه المشاة في الجيش اما موقف السيارات في المسجد فقد رسم على شكل مخزن الرشاش في حين ان هذا الجامع ضم انفاقاً و ممرات تحت الارض وكأن المبنى عبارة عن مركز امني للأعتقال وليس معلماً للعبادة ولذلك لو قدر لمصمم معماري ان يختار شكلاً لهذا الجامع من دون تدخل سياسي ومن دون الاذعان لفكرة القوة ، فحتماً هذا المعماري العراقي لن يختار شكل رشاش الكلاشنكوف الروسي ليكون الفضاء الخارجي لجامع ام القرى. اما وزارة النفط العراقية الواقعة باتجاه شارع فلسطين ببغداد فقد كان لونها بلون البدلة العسكرية في حين ان تصاميمها المعمارية الداخلية تتلاءم مع وزارة للأمن الوطني بسبب متاهاتها و تعقيداتها و ظلامية ممراتها.
كما ان وزارة التعليم العالي و البحث العلمي الواقعة بالقرب من الباب الشرقي يمكن مقاربتها بمبنى يصلح لعمل جهاز المخابرات العامة بسبب مكاتبها الصغيرة و المحكمة امنياً ما يؤكد ان العملية المعمارية العراقية كانت خاضعةً لمتطلبات و معايير غير علمية و غير ابداعية، ترتب عليها اجبار المصمم المعماري العراقي على التعبير عن فكر السلطة لا فكره العلمي المستوحى من فكر المدارس المعمارية الرصينة سواء الموجودة في العراق او تلك المنتشرة في العالم.
بدقة، يمكن وصف الفترة الزمنية هذه، بالحقبة السوداء في مسيرة العمارة العراقية لأن المصمم المعماري العراقي اخذ الى وجهة غير وجهته الحقيقية لأنه باني حضارات وليس مخلد دكتاتوريات.
ان الطبيعة الانسانية العميقة للمصمم المعماري تحتم عليه عندما يفكر في وضع تصاميم اي تصاميم سواء كانت لمدن او مجمعات سكنية او تجارية او صناعية او سياحية ان يستحضر كل التجليات التي لها صلة بعراق عمره آلاف السنين وكان مهد الحضارات الانسانية في سومر و اكد وآشور و بابل لأن ذلك عامآ مهم للأبداع و الرقي بالرسائل التي تحكيها الابنية المعمارية فالأساس في كل العملية الابداعية المعمارية هو انتاج مشهد حضري مؤثر في العالم لا في العراق وحده، بين الانسانية جمعاء لا بين العراقيين وحدهم.
من ناحية ثانية، كانت عمليات المركز القومي للأستشارات الهندسية الواقع في بداية شارع الرشيد من جهة شارع ابي نؤاس، رغم قلتها تخضع بالكامل لرقابة السلطة الامنية في الفترة الزمنية نفسها وبالتالي كرس هذا المركز مجهوده لتصميم مشاريع معمارية محددة و بنظرة سياسية متشددة، كما ان العاملين في هذا المركز بعد العام 1991 تحولوا من مبدعين ومفكرين الى مجرد موظفين اداريين في وقت كان مطلوباً فيه علمياً من المركز القومي للهندسة ابتكار نظريات معمارية و تصاميم معمارية بنوعية عالمية تتضمن رسائل من الحضارة العراقية العريقة الى حضارات العالم لكن هذا التطور لم يحدث على الاطلاق.
وفي تفاصيل تبدو اكثر مرارةً، كانت التصاميم المعمارية المؤرشفة في وزارة الاسكان الواقعة في منطقة العلاوي قد اكلها الغبار التي تعود ربما لكبار المعماريين العراقيين الذين توفوا او اولئك الذين لازالوا على قيد الحياة وكان الرهان ان تكون هذه التصاميم التي تعود لفترات ذهبية من مسيرة العمارة العراقية، نواةً لنهضة معمارية على صعيد بناء المجمعات السكنية التي يحتاجها المجتمع العراقي و التي تؤكد بعض الدراسات ان بناء هذه المجمعات هو التحدي الاكبر للحركة المعمارية في ظل احصائيات تشير الى الحاجة الى ستة ملايين وحدة سكنية في الوقت الراهن.
من واقع سلبيات هذه الفترة الزمنية الممتدة من 1980 الى 2003 ، ان العديد من رموز العمارة العراقية غادروا العراق الى الخارج في الولايات المتحدة و كندا و اوروبا ما سمح باندماج هؤلاء بالنظريات المعمارية الغربية التي اخذتهم بعيداً عن تجلياتهم حيث كان هؤلاء يمثلون الرهان العلمي الرصين لقيام فكر معماري و نظرية معمارية خاصة بالعراق غير ان المجتمعات الاخرى هي من نجحت في الاستفادة من عبقرية هؤلاء.
المشكلة الراهنة، ان ارهاصات هذه الفترة الزمنية على المستوى المعماري لازال لها تأثير على الممارسة المعمارية حتى بعد العام 2003 ولذلك تبدو اهمية هذا العنوان والموضوع بان على اساتذة العمارة والعاملين فيها وطلابها ان يذهبوا الى اجواء من التأمل والمراجعة لكي يستعيدوا الالتزام بالمنهج العلمي بمعزل عن مؤثرات تلك الحقبة الزمنية لضمان الانتقال بالعمارة العراقية فكراً وممارسةً الى مستويات و اشكال و تصاميم تليق بمجمل التغيرات التي رافقت حياة المجتمع العراقي في السنوات الثماني الماضية.
دون ادنى شك، نال العراقيون الكثير من حرياتهم بسبب سيادة التعددية و هذا عامل ضروري للمصمم و المفكر المعماري لكي يجتهد في وضع قواعد واسس تطور العمارة في العراق في غضون العشرة اعوام المقبلة، كما ان هذه الحرية و هذه التعددية تمثل فرصة علمية جدية لكي يفرض المعماري العراقي تصوره بشأن مشاريع العمران المختلفة التي يمكن للدولة و القطاع الخاص ان ينفذها بمعنى ان هذه التعددية ستضع المصمم و المفكر المعماري امام مسؤوليته في تحديد المشهد الحضري لبغداد وبقية المدن العراقية.
المهم ان لا تترك العمارة في العراق لتدخلات غير المعماريين والاساس ان لا يتخلى المعماري عن دوره الاصيل و العضوي في عملية العمران و الا ستتكرر تجربة 23 عاماً ( من1980 و لغاية 2003) ، تجربة اتسمت بأن المعماري العراقي كان يصمم و فكره المعماري مصادر و الاسوأ كانت افكار التصاميم تفرض عليه من قبل اطراف غير معمارية و هو عليه ان ينفذ التصميم وينفذ تطبيقه على الارض. في العام 2012 ، يجب ان يؤمن المصمم و المفكر المعماري العراقي أن بأستطاعته ان يكون عامل سلام بين العراقيين و ان يشيع في نفوسهم الطمأنينة و التفاؤل ويحثهم على العمل، فالمحاكاة بين الانسان و بين الابنية التي يعيش فيها و يتجول حولها لا تقف عند حدود من التأثير المعنوي والاجتماعي و الاخلاقي و العاطفي.
وفي اشارة مهمة للغاية، اذا كانت الدولة بين العام 1980 و 2003 اختارت شخصنة العمارة لصالح فكر وهوية الفرد الحاكم والتي افضت الى طمس الابداع المعماري من جهة و تراجع او توقف الحركة المعمارية وعدم ظهور ابنية جديدة ولافتة بسبب صعوبة الظروف الاقتصادية و الاجتماعية في هذه الفترة من جهة ثانية، فأن الدولة بعد العام 2003 قد تجاهلت اهمية الفكر المعماري بالكامل واختارت مؤسساتها ووزارتها التوجه الى مقاولين كبار اوصغار لكي يختاروا ما يشاؤون من تصاميم ولكي يفرضوا ما يريدون على المجتمع العراقي ثم وصل الامر الى ان المقاول يأتي بتصاميم جاهزة مستوردة او انه يشتري تصاميم جاهزة من شركات اخرى وبالتالي كان الثمن من جديد الاضرار بإبداعية العمارة العراقية و عراقتها و هويتها، كما ان الفساد المالي الذي مارسه هؤلاء المقاولون اثر سلباً على نوعية وجودة تنفيذ التصاميم المعمارية الجيدة رغم شحتها.
بمعنى آخر، اذا كانت العمارة العراقية واجهت خطر الحاكم الفرد من 1980 و لغاية 2003، فأن مستقبل عمارة بلاد وادي الرافدين مهددة بمزيد من الاختراق و الاستلاب ولكن هذه المرة من قبل المقاول واختياراته العشوائية و الارتجالية و الذاتية ومن قبل تطلعاته في الفساد التي لا تقف عند حدود وبتجاهل تام من الدولة العراقية ولذلك على هذه الدولة بعد العام 2003 ان تبادر على الفور في تأسيس هيئة عليا للعمارة في العراق تتمتع بديناميكية فعالة وتقتصر مهمتها على دراسة جميع التصاميم المعمارية والتصديق عليها و مراقبة تنفيذها ايا كانت وعلى كل المستويات بحيث لا يشيد مبنى في حي و مدينة وشارع من دون موافقة هذه الهيئة.
سيريان تلغراف | سرى فوزي الخفاجي