قد تكون سوريا من البلدان النادرة في العالم التي بقيت كواليس صنع القرار فيها عسيرة على التوثيق، سورية التي كان الأمن و الأمان فيها فخر النظام وقلعته السياسية، سيستغرب المهتم أن المهمة الأولى للدائرة الضيقة حول صانع قرارها الأسد الراحل كانت الحرص على كشف و إحباط المحاولات الأمريكية لأختراقه. محاولات لم تتوقف واخذت اشكالا عديدة ولكن، كيف كان القرار يتخذ في اعلى هرم السلطة السورية؟ وكيف ينظر رجال تلك المرحلة الى ما يحصل الآن في سورية؟
الفكرة بدأت منذ سنين بسؤال : لماذا لا نؤرخ تاريخ سورية الحديث بالصوت والصورة ، وعلى لسان شخصيات قيادية ساهمت في صنع تلك المرحلة الممتدة من العام 1970 وحتى اليوم ؟
تبين لنا أن مجرد الحديث لصحفي دونه خرط القتاد ، فكيف به توثيق بالصوت و الصورة ؟
أجرينا اتصالات عديدة مع من عايشوا تلك الفترة ، الجميع كان يتهرب ، قلة منهم العماد مصطفى طلاس أبدوا رغبة في الحديث أمام الكاميرا ، قلة قليلة لان بعض أقوى الفاعلين في زمن الرئيس الراحل ليسوا من النوع الذي يفيد آو يستفيد من الكلام عن نفسه وعن الأدوار التي لعبها ، ففي زمن الصوت والصورة يفضل الكثير من شهود العيان البقاء صامتين بلا صوت وبلا صورة .
لكن مع تطور الأحداث ، ومع محاولات تشويه كل تاريخ سورية بمعارضيها ومواليها اقتنع البعض ممن هم في الداخل وبعض من هم خارجها ، اقتنعوا أن زمن الصمت يجب أن ينتهي لا لمصلحة شخصية،وإنما لمصلحة سورية .
يقول محدثنا : لا أخشى شيئاً ولا يعنيني ذكر اسمي ولكني حينها لن أستطيع إفراغ الحقيبة (قالها بالفرنسية) أي أنه لن يستطيع قول كل شيء وبالأسماء .
طلبنا مقابلة بلا اسم وطلبنا مقابلة مصورة للتاريخ ننشرها فقط إن رغب هو فيما بعد بذلك ، فقال :
تنشرون بعض المقابلة الآن مكتوبا ، وتبثونها كاملة بعد وفاتي
اتفقنا مع الشخصية السورية الرفيعة على تصوير حلقات ، مع الالتزام بطلبه عدم بثها تلفزيونياً إلا بعد وفاته (ثمانيني يعاني من مرض عضال يقاتله من سنوات أربع) ، محدثنا كان كريماً معنا ، فبمساعيه وافق عدد من شهود العيان على تقديم ما يعرفون بالصوت والصورة عن مرحلة حفلت بالكثير من الأحداث ، كان الرابط الوحيد بين تلك الأحداث هو التعتيم على كواليسها .
محدثنا لا يمانع الإشارة إليه لكي يعرفه الناس مع الإبقاء على فرصة النفي إذا احتاج هو للنفي لذا لن نذكر اسمه ولكننا سنذكر صفاته :
هو ليس علي دوبا ولا مصطفى طلاس ، ولكم أن تبحثوا فيمن تبقى من مساعدي الرئيس حافظ الأسد لتعرفوه من صفتين : الأولى أنه كان الرقم الأول أمنيا (بحكم الملفات والصلاحيات التي سلمه إياها الرئيس الراحل في السر وكان الرقم 4 في العلن).
علماني ولكنه ليس أقلوياً ، وينحدر من محافظة سورية كبرى ، وله في الاعتراض على تنصيب الرئيس بشار الأسد قول شهير :
” حاربونا فلم يكن لدينا وقت لخلق آلية وطنية لاختيار الخلف إلا من خلال آليات الحزب ، وتلك لن توصل سوى خدام إلى رأس السلطة ، فأما أن نسير كلنا إلى الهاوية مع اختيار الخدام ذو النزعة المتوافقة مع التيار الرجعي العربي ، وأما أن نخلق آلية حزبية لاختيار الدكتور بشار الأسد “
السؤال الأول كان : ثلاثون عاماً في السلطة منذ انقلاب الحركة التصحيحية حتى وفاة الراحل حافظ الأسد ولم يكن لديكم الوقت لانتخاب رئيس بشكل مؤسساتي في العام 2000 ؟
ج: أجدادنا تركوا لنا إرثا كبيرا من الفلسفة ، التي وإن كانت شعبية إلا أنها تمثل عصارة الفكر البشري، عنيت بها الأمثال والحكم.
إن أفضل توصيف للتاريخ الحديث في سورية هو القول الشعبي التالي: ” اللي ايدو بالنار مو متل اللي ايدو بالمي”.
من العام 1970 إلى العام 2000 اذكر لي سنة لم نكن فيها ضحية لتدخل مخابراتي دولي متعدد، ولم نكن فيها في موقف الدفاع عن النفس وعن الوجود؟
ومن العام 1970 إلى العام 2000 هل مرت سنة دون مؤامرة خارجية بأذرع داخلية ؟
نعم استمر الرئيس حافظ الأسد في السلطة ثلاثين عاماً، ولكن هل مرّ عام ٌ منها بلا أزمة خارجية تهدد وجودنا؟ وهل ارتحنا من أزمة خارجية إلا وعاجلنا عملاء الأميركيين تحديداً – مباشرة أو على يد أعوانهم – بأزمة داخلية تلو الأخرى ؟
ثم إن آلية انتقال السلطة في كل بلد تنبع من حاجات شعبه، وحاجات الناس في الأمن والاستقرار تتخذ طابعا أولوياً على كليشيهات الرومانسية النضالية الحالمة عند البعض منكم انتم الصحافيين والمثقفين.
قبل إن تسألوا على الانتقال المؤسساتي للسلطة في سورية والذي تم بشكل دستوري وشعبي وافق عليه شعبنا باستفتاء ، هل تصدقون فعلا أن انتقال السلطة في الدول الغربية يتم بشكل ديمقراطي رومانسي حقيقي؟
هل تصدق أنت – مع احترامي لك – أن أي أمريكي ناشط في السياسة وفي الشأن العام يمكنه تأمين ثلاثة مليارات دولار للصرف على حملته الانتخابية كما فعل كل من اوباما وخصمه الجمهوري؟
” كلو من بعضو” ، في سورية لدينا آلية وفي أميركا لديهم آلية، نحن آليتنا كانت تنبثق عن جبهة تحكم يرأسها حزب طليعي هو البعث العربي الاشتراكي، وفي أميركا تنبثق الآلية عن حزب حاكم وحيد له تسميتي ” الجمهوري والديمقراطي ” وكلاهما في جوهره واحد وحيد .
في بلادنا تُلام النقابات والحزب وربما الأمن على توجيههم للناخبين، وتسمى هذه الآلية في أدبياتكم انتم الصحافيون ” شمولية ” و” أمنية ” و ” ديكتاتورية “.
وأما في أميركا خاصة وفي أوروبا والعالم الغربي عامة فتسمونها ” ديمقراطية ” بينما الجوهر واحد !!
س: كيف وجماهيرهم تنتخب بحرية؟
ج: جماهيرهم تنتخب بناء على التوجهات التي تسوقها وسائل الإعلام الطاغية الوحيدة والحصرية، والتي يملكها الحزبان الرئيسيان في كل بلد، أو تملكها المؤسسة الخفية الحاكمة المتمثلة بكارتيلات المال والمخابرات وتحالف رجال البنوك مع رجال الصناعات الكبرى والشركات الدولية ، بالاختصار، ما يشكوا منه البعض في بلادنا من تدخل الحزب أو الأمن أو النقابات أو السلطة تمارسه الحكومات الغربية بالنتيجة نفسها وبالهدف نفسه وبالأسلوب نفسه ولكن تحت عنوان الديمقراطية.
يتبع …
سيريان تلغراف | عربي برس