تغيرت لغة الأرض في البقاع الشمالي، وبالتحديد من المنعطف الذي يؤدي إلى عرسال في بلدة اللبوة، وصولاً إلى معبر قلد السبع، بوابة جرماش، ومعها ريف غرب القصير، حيث القرى سورية التراب، لبنانية السكان.
تتكلم الأرض الممتدة على مساحة ستين كيلومتراً من الحدود السورية اللبنانية، من عرسال وجرودها إلى كتف الشمال اللبناني، في السياسة والأمن، من دون ان تتنكر للغتها الأم: «التهريب»، وإن طورت في سلعه تلبية للإحتياجات المرتبطة بما يجري في سوريا.
طعّمت المنطقة التي خطها قلم «سايكس بيكو»، ورسم حدودها، قبل 96 عاماً من اليوم، مفرداتها بآليات الواقع المستجد وعدته: «المذاهب والحساسيات الطائفية». مفردات، وإن اعتادها الجانب اللبناني، بيد انها ظلت غريبة عن سوريا طوال نحو نصف قرن من الاستقرار، قبل أن تصبح الجارة الشرقية مشرعة الأبواب على أزمة وطنية، تصيب بتداعياتها كل المنطقة وخاصة «دول الجوار».
وها هو الداخل السوري يلتحق بركب الداخل اللبناني المشرع منذ سنوات على انقسام سياسي وطائفي خطير، متأثرا بوقائع النسيج الواحد والحدود المفتوحة، وإن امسك بها معبر شرعي واحد في منطقة القاع، لتدخل المنطقة في تجربة «الفوضى المشتركة» للمرة الأولى منذ ما يقارب القرن من الزمن.
وعلى رأس الفوضى المستجدة، تتربع «الجمهورية العرسالية»، بما تمثله في الحيثية السياسية الحدودية اللبنانية اليوم، لتمسك بأربعين كيلومتراً من الحدود المفتوحة على الداخل السوري، تاركة عشرين كيلومتراً للتلاوين المذهبية الأخرى في المنطقة، وعلى رأسها الشيعية، ذات الامتداد السكاني إلى العمق السوري على فم مدينة القصير. القصير نفسها مركز ريف محافظة حمص.
يكتسب حوض نهر العاصي الغني بالتلاوين الطائفية والمذهبية والسياسية بعداً اساسياً في الأحداث السورية. لم تُسقط الأطراف اللاعبة على الأرض من حساباتها التركيبة الديموغرافية ولا الجيوسياسية للمنطقة. فتّح الثوار، ومن معهم من كتائب سلفية و«جهادية» في معركتهم المصيرية في القصير، اعينهم على الشريط السكاني اللبناني الممتد من ريف المدينة، إلى الحدود اللبنانية في عرسال ومشاريع القاع مروراً إلى القصر وحوش السيد علي والجنطلية والعميرية وغيرها من المناطق المفتوحة على مركز القضاء في الهرمل.
في الحسابات اللوجستية، يعي الجميع التلاوين المتنوعة في الإنتماء والموقف لنحو خمسة وثلاثين الف نسمة من اللبنانيين يشكلون ثلث السكان في ثلاثين قرية سورية ريفية، وطبعاً يقررون حجم النفوذ الكبير لمن تكتب له السيطرة الميدانية على الأرض. نحن نتكلم هنا عن الظهر السوري على الحدود اللبنانية، وبالتحديد القصير ومن بعدها حمص في الداخل، وعن بوابة لبنان الشرقية التي تشكل الظهر الشيعي البقاعي في منطقة بعلبك الهرمل، والمفتوح بدوره على عكار والضنية في الجرود، وبما يعنيه الشمال اليوم بالنسبة للصراع السوري، وفم «الكماشة» السنية للمنطقة.
كان المقاتلون في القصير مطمئنين إلى خلفية القرى السنية في الشريط الحدودي السوري الأرض واللبناني السكان، وعلى رأسه جوسيه واخواتها، لناحية مشاريع القاع عرسالية الهوى والسيطرة، ومعها الإمتداد العرسالي الضارب في عمق النبك السورية. ارتياح شبيه باطمئنان النظام السوري وجيشه إلى ظهره الشيعي على حدود الهرمل ومنطقتها، ومعه التوافق الضمني لضرورة صونها ودعم صمود اهلها بشتى الوسائل وفق قواعد المصلحة المشتركة.
في المقابل، وعلى اختلاف التلاوين المذهبية والسياسية لبنانياً، وضبت قوى الأمر الواقع في المنطقة سياسة «النأي بالنفس» المعلنة من قبل الدولة، مستفيدة من حساسيات الداخل اللبناني وتوازناته المتحكمة بالسقف الأمني والعسكري المسموح به، وفتحت حساباتها الخاصة في التعاطي مع ما يجري على الحدود وناسها. حسابات محكومة بالمصالح الإستراتيجية اولاً، وبالإتهامات المتبادلة ثانياً، والمتركزة على الدعم لهذا الطرف او ذاك على الساحة السورية.
ومع التغييرات في سوريا صارت اللوثة المذهبية واحدة على الضفتين. قامت السواتر الترابية بين القرى السورية وفقاً للون المذهبي، وعلى خطوط تماس مستجدة، نبتت المتاريس على جنبات الحقول المشتركة بين القرى الشيعية والسنية، وعلى رأسها سقرجة والبرهانية البوابة السنية لشيعة الريف السوري نحو المدينة الأقرب، ومركز التموين المعيشي والخدماتي، أي القصير.
وجاء تهجير الشيعة والمسيحيين السوريين من حمص والقصير، ومن ثم ربلة المسيحية ليعزز الفرز الديموغرافي والجغرافي المر. تهجير لم يستثن السنة اللبنانيين والسوريين، وخصوصاً العائلات من أطفال ونساء وشيوخ.
كل هذه «المرارة التشكيلية» لم تمنع بقاء بعض الجيوب السنية في الشريط الشيعي المربوط بقرى علوية ومرشدية في الريف القصيري، وصولاً إلى الطريق الساحلي الذي يربطه عبر منطقة الناعم بطرطوس فاللاذقية، ويجعل السكان بغنى عن القصير ومركزية خدماتها.. لكنه تنوع صامت تفرضه على الأرجح سياسة الانحناء أمام العاصفة تجنباً للانكسار.
ويحتاج «الدفاع عن النفس» كما يسميه سكان القرى في ريف القصير، إلى مقومات الصمود، وعلى رأسه السلاح في زمن علا فيه صوت البندقية. يقولون إنهم باعوا من مواشيهم ومن أراضيهم ليبتاعوا أدوات الدفاع عن عوائلهم وبيوتهم وأنفسهم، وليبعدوا كأس التهجير المرة التي ذاقوا مرارتها في بداية الأحداث السورية. يتحدثون عن «غرباء» ويقولون إن ما حصل لأهالي ربلة يؤكد صوابية خيارهم «تهجروا ولم يجدوا دولة لبنانية أو شعباً يحتضنهم».
وفرض التموضع الجديد لدى الطرفين احتياجاته على سوق التهريب التي افلتت من عقالها. وعليه، تصدر السلاح وذخيرته السوق، بغض النظر عن هوية المهربين والتجار الذين يعتبرون ان «ربهم وحليفهم» هو المال، ومن بعده الطوفان. حتى ان عناصر القوى الأمنية يتحدثون عن إمساكهم بطفل في الثانية عشرة من العمر وفي جعبته التهريبية، على الطريق نحو سوريا، الف وثمانمئة طلقة رصاص، قال انه جمعها ليطلقها في الهواء. وإذا ضربنا 1800 طلقة بثلاثة آلاف ليرة لبنانية، نجد ان صفقة الطفل وحده كانت بقيمة خمسة ملايين واربعمئة ليرة لبنانية. طلقة الرصاص نفسها عرفت ايام العز ليقفز سعرها من ستمائة ليرة لبنانية في بداية الأحداث السورية إلى ثلاثة آلاف ليرة لبنانية اليوم. فماذا عن الأسلحة الرشاشة والصاروخية.
نزح شيعة حمص وقرى ريف القصير إلى زيتا ومطربة على الحدود مع لبنان، ووصلت اعداد قليلة منهم إلى القصر والهرمل، فيما تفرق المسيحيون نحو الداخل السوري وعلى رأسه الشام، وأكمل اللبنانيون من بينهم إلى القاع ورأس بعلبك وزحلة.
وانسجاماً مع التقسيمات والتحالفات توزع النازحون والمهجرون السنة السوريون منهم واللبنانيون على الشمال اللبناني، فيما وصلت اعدادهم من ريف حمص والقصير إلى نحو 12 الف نازح في عرسال و«مشاريع القاع» وليدتها.
عرسال، البلدة التي يقارب عديد سكانها الـ45 الف نسمة، فتحت ذراعيها واحتضنت «الثورة السورية»، طمعا بانتصار سريع كما وعدها «القيمون» عليها سياسيا وطائفيا. لم يسقط النظام السوري بسرعة كما غيره، لا بل ان تطور الأحداث الأخيرة وسيطرة الجيش النظامي على الشريط السني المحاذي لعرسال في جوسيه والنزارية والعاطفية وأخواتها، ضيق الخناق على المجموعات المسلحة التي كانت تفر باتجاه الحدود اللبنانية مع كل «كبسة» ميدانية.
اليوم، لم تعد مقومات عرسال الخدماتية تكفي لـ12 الف نسمة نازحة، من دون إغفال حقيقة التململ الاجتماعي الذي بدأ يطفو على السطح ليفرض نقاشات في الحلول المتاحة والمعدومة، على ما يبدو، لدى الأخذ في الاعتبار الجغرافيا السياسية لعرسال ومحيطها.
في مقابل التململ العرسالي من التركة الثقيلة للموقف الطرف في الأحداث، وفي ظل تخل اقتصادي وخدماتي واضح من القوى السياسية المحسوبة عليها، لا يجد النازحون اللبنانيون القادمون من الشريط السني في جوسيه وجاراتها من يسأل عنهم.
ها هم يقطنون في «مشاريع القاع» في شوادر خفيفة حاكوها بأنفسهم خيماً لن تصمد امام الشتاء الآتي على عجل. لا الأمم المتحدة تعترف بهم لاجئين في وطنهم، ولا القوى السياسية المساندة لـ«الثورة» التفتت إليهم، وطبعاً، لا الدولة اللبنانية تعرفت إلى أولادها الذين اعتادت ترك شؤونهم وشجونهم للدولة السورية طوال قرن يعود إلى «سايكس- بيكو».
وكما في سوريا، ترتسم خطوط تماس أفقية وعمودية في الداخل اللبناني محكومة بخريطة الحدود مع سوريا، في محاولة من كل طرف لحفظ توازناته الخاصة عند عتبة مرحلة مصيرية لا يبدو أن أحدا يملك أجوبتها.
سيريان تلغراف